انقل لكم حديث رائع من العلامة المرحوم الطيب صالح عن المعارف المحلية للسكان المحليين في منطقة كرمكول بالولاية الشمالية لترويض نهر النيل اثناء الفيضان لإعادة الغطاء النباتي من الأشجار المحلية من طلح وسيال والمراعي، حيث يقطع الأهالي في مناسبات الافراح أشجار الطلح في زفة العرس بالرغم من الضوابط الصارمة في قطع الأشجار خارج الغابات المحجوزة بدفع عوائد جليلة والتي حددتها سياسة وتشريعات الغابات في تلك الفترة. يحكي لنا هذا الإعلامي الروائي المثقف القصة بطريقة شيقة وممتعة دعونا نستمتع بها حيث يقول :
الذين حضروا أيام الإنجليز من المخضرمين أمثالي يذكرون أن فى المديرية الشمالية كانوا يشقون قنوات على ضفتى النيل على طول امتداده فى ذلك الإقليم. كان لذلك فائدتان حين يفيض النيل يفتحون تلك القنوات فيسيل النيل على الضفتين فتمتص الأرض الظمأى فائض الماء من النهر فلا يحدث الخراب والدمار الذي يحدثه إذا لم يجد متنفسا وقد كان ذلك فى ظنى الهدف الاهم من فتح تلك القنوات؛ الفائدة الثانية هى أن ماء الفيضان يصل الى أماكن لا يصلها عادة فتكون زراعات ومراعى أغنام وغابات طلح وسيال وعشر وغير ذلك، كان يثبت الأرض الرملية ويقى من رياح السموم ويبسط الظل على عدوتى النيل. وكان فى بلدنا غابة كبيرة من اشجار الطلح يسقيها النيل من تلك القنوات من عام الى عام وقد نمت وازدهرت لأن الحكومة كانت تمنع منعا باتا قطع اى شجرة إلا بإذن خاص فى حالات نادرة؛ من تلك الحالات النادرة قطع شجر طلحة العرس فقد كان من طقوسهم فى الاعراس أنهم يمشون الى الغابة فى زفة عظيمة فيقطعون شجرة طلح ويعودون بها الى د ار العروس؛ أذكر وأنا صبي فى الاربعينات عرسا كانت له شنة ورنة من تلك الأعراس التى يؤرخ بها وتظل اصداؤها تتردد زمنا طويلا.
كان العريس إسماعيل صبير من اهلنا ناس كرمكول وكان اخا وحيدا بين عدة اخوات وكانت العروس إبنة المرحوم عبد الله عباس الذي كان يومئذ من كبار موظفي الجمارك. كان من اوائل خريجى كلية غردون من اهلنا إضافة الى ان اخت العريس زينب صبير عملت لأخيها سيرة لم يحدث مثلها من قبل ولا بعد.
كانت شابة وضيئة متزوجة لا اظن أن سنها كانت تزيد على خمسة وعشرين عاما، أذكر لونها العسلى وثغرها البراق ووقفتها النبيلة وصوتها العجيب الذي تعجز الكلمات عن وصفه. بدت لى تحت ضوء المصابيح -ولابد إنها ظهرت كذلك لأهل البلد كلهم -كأنها طيف ملائكى حل علينا من كوكب آخر. سرنا معها كالمسحورين يحدونا صوتها الأسطوري من دار العروس فى كرمكول شاقين البلد من الغرب الى الشرق حتى وصلنا الغابة عند دبة الفقراء. ظلت تغنى كانها ترتجل حتى قطعنا الطلحة وعدنا الى كرمكول ربما أكثر من ثلاث ساعات وربما أربع وصوتها يزداد عمقا ومدى وجاذبية والصور والمعانى تصل الى وجداننا منها مثل رفيف أجنحة القطا
جيد لى أنا جيد لى بى ذاتو. يانمر الخلا الفارد جناحاتو
حين صرت أكبر سنا وأكثر إدراكا فهمت أن زيب بت صبير صنعت فنا عظيما فى تلك الليلة. خلقت اسطورة لأخيها فإذا هو أجمل وأكرم وأشجع وأغنى وادخلت البلد قاطبة فى نسيج عالمها الأسطوري فإذا بلدنا كما نعرفها وزيادة، وإذا نحن جميعا كما نعرف أنفسنا وأكثر، كذلك يصنع الفن العظيم؛ إنما الحياة كانت بالفعل حلوة فى تلك الايام. حلوة حلاوة من لا يعرف طعمها إلا من ذاقها فماذا كانت عندنا يومئذ ولم يعد عندنا اليوم لم يمهل القدر زينب بت صبير بعد أشهر معدودات من تلك الليلة المشهورة وأختطفها الموت فجأة دون علة واضحة. رحمها الله كانت حقيقة طيفا ألم بالبلد ثم عاد من حيث اتى؛ لا توجد اليوم أعراس كالعرس الذي غنت فيه زينب فى أي من قرى شمال السودان فقد فرغت القرى من اهليها الذين تفرقوا أيدي سبأ، اختفت الغابات على الضفتين وهاجرت القماري بشجوها. النيل الرحيم الودود عادة ظل فى العهود الاخيرة يطمس المعالم ويمحو الآثار كأنه يريد أن يقول شيئا، كأنه ضاق بحبسه بين الضففتين، فمتى تفتح القنوات للنهر وللبشر؟ ومتى تهدأ ثورة النيل؟ ومتى تعود القماري بشجوها؟
