بين الوعود والواقع: عرضحال من قلب مؤتمرات المناخ
د.عبدالعظيم ميرغني ابراهيم
منذ قمة البيئة والتنمية عام 1992، المؤتمر المعروف مجازاً بقمة الأرض، والعالم يعقد المؤتمرات البيئية الكبرى أملاً في إنقاذ الكوكب، فما الذي تحقق؟
• عقد حتى الآن واحد وستون مؤتمراً بيئياً عالمياً، 29 منها خصصت لتغير المناخ، و16 للتنوع الأحيائي، ومثلها لمكافحة التصحر. ولأن اتفاقية تغيّر المناخ كانت الأكثر حضوراً في الساحة، فلنتخذها أنموذجاً نقيس به ما تحقق.
• ولأن المؤتمر الذي انعقد بكوبنهاجن في الدانمارك عام 2009 كان برئاسة السودان انابة عن مجموعة ال٧٧ والصين، فلنأخذه مثالا لأني عشت تفاصيله بأكثر مما عشت في بقية المؤتمرات الأخرى التي شاركت فيها.
• ومن الطريف في هذا المؤتمر أن بعض زملائي في المجلس الحاكم للمنتدى الأفريقي للغابات كانوا يخصونني بالتهنئة على النجاح الكبير الذي حققه السودان في قيادة المفاوضات، معتقدين أن سفيرنا إبراهيم ميرغني إبراهيم، الذي ترأس المؤتمر بحنكة واقتدار، هو شقيقي، بسبب تطابق اسمه مع اسمي: عبد العظيم ميرغني إبراهيم. ولم أشأ أن أفسد لحظة الحماسة، فكنت اكتفي فقط بالابتسام!
• عودة للمؤتمر، تبدأ هذه المؤتمرات بجلسات احتفالية، تلقى فيها كلمات من كبار المسؤولين: رؤساء دول، وزراء، أمناء منظمات، وترفع فيها شعارات، وتعرض فيديوهات قصيرة عن “الكوكب في خطر.
• وما إن تنقضي الجلسات الافتتاحية، حتى تفتح أبواب غرف التفاوض، حيث الشياطين تكمن في التفاصيل، فيشرع مناديب الدول المتقدمة والنامية، في حوارات متوترة، يتنازعون حول أسئلة معلقة: من المسؤول؟ من يدفع؟ من يلتزم؟
• عادةً لا تخلو هذه المؤتمرات من مضايقات، كما حدث لإحدى المفاوضات البارزات في وفد بلادها في هذا المؤتمر، وهي مدافعة شرسة عن حقوق الدول النامية، إذ أسقطت حكومتها اسمها من قائمة وفدها الرسمي، فضمّها السودان إلى وفده كمستشارة. وعند ظهروها لأول مرة إلى جانب وفد السودان، قوبلت من الجميع بعاصفة من التصفيق الحار.
• وقد تمتد هذه الحوارات حتى ساعات الفجر الأولى، ويقاس فيها التقدّم أحياناً بإضافة فاصلة، أو إدراج قوس، أو استبدال ‘shall’ بـ ‘should’، أي تعديلات شكلية طفيفة لا تمس جوهر المضمون.
• وكما هو مألوف، تختتم هذه الحوارات ببيانات ختامية أو باتفاقيات جديدة، تصاغ بلغة ناعمة ومرنة، مشبعة بتوازنات سياسية دقيقة، على نهج مخرجات “ملكة فن مسك العصا من النص”، هيئة الأمم المتحدة.
• لكن خارج غرف التفاوض، ثمة فضاءٌ موازٍ نابض بالحيوية: عشرات، وربما مئات، من المعارض التي تنظمها جمعيات أهلية، وشركات خضراء، قصص حيّة عن مجتمعات تقاوم التصحر، أو تقنيات تُحوّل المخلفات إلى طاقة.
• الكثير من التفاهمات والصداقات، وحتى الخيبات لا تحدث داخل الجلسات، بل هنا في المقاهي، وممرات الفنادق، أو على طاولات العشاء. هنا تبنى التحالفات، وتسوّى الخلافات، أو تعمّق.
• هنا تتاح للجميع فرص الترويج لأفكارهم ومعتقداتهم. النباتيون، يرفعون شعارهم الشهير: “تناوَلْ وجبة غذائية نباتية كاملة تُسهم في خفض ظاهرة التسخين الكوني بنسبة 80%”. ويستندون في ذلك إلى معطيات تظهر أن ما تنتجه مزارع تربية الحيوانات من الغازات الدفيئة يفوق ما تنتجه جميع وسائل النقل مجتمعة، وأن صناعة اللحوم تستحوذ على ربع مساحة اليابسة وثلث الأراضي الزراعية الخصبة، فضلاً عن تسببها في إزالة الغابات المدارية لإقامة مراعي مما يُفاقم أزمة تغيّر المناخ.
• ومن بين الحضور كانت هناك جماعة تسمي نفسها جماعة “حزب الله الإسلامي- فرع الدانمارك”، تكرّس نشاطها للتحذير من مخاطر دفن النفايات السامة في أراضي الدول النامية مقابل أثمان بخسة ومبالغ زهيدة.
• وجماعة دانماركية بمسمى “عار الغذاء التالف”، تضم سياسيين وطهاة، تحذر من أن متوسط ما يهدره الفرد في الدانمارك سنويًا من الطعام الصالح يبلغ 63 كيلوجرامًا، وتنتقد تغافل المؤتمرات عن حقيقة أن نصف الغذاء العالمي يُهدر، رغم أن إنتاجه يساهم في نحو 10% من الانبعاثات الدفيئة.
• لا تقتصر المشاركة في هذه المؤتمرات على المؤمنين بظاهرة تغيّر المناخ فحسب، بل تشمل أيضاً المشككين، مثل اللورد البريطاني كريستوفر مونكتون، مستشار رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، الذي يرى في هذه المؤتمرات جزء من مؤامرة أممية لإقامة حكومة عالمية.
• ومع هذا التباين في المواقف، ترفع في هذه المؤتمرات شعارات لا حصر لها، ومن أكثرها تداولاً الذي يقول “الأغبياء يقولون: هو المناخ، أما العقلاء فيقولون: إنه تغيّر المناخ”.
• وهو شعار ينتقد التفسيرات السطحية في قراءة الظواهر المناخية الحادة — من جفاف أو سيول — باعتبارها مجرد تقلبات طبيعية عابرة، بينما هي في الحقيقة مؤشرات صارخة على تحولات عميقة تهزّ النظام المناخي العالمي.
• وشعار “لنُبقِ هدف 1.5 درجة مئوية حيّاً”، وهو الشعار الأشهر الذي رفع مؤخراً منذ اتفاق باريس 2015، ويعني إبقاء الحد من الاحتراز العالمي عند أقل من 1.5 درجة مئوية. ويستخدم هذا الشعار للضغط على الدول الكبرى.
• وبينما يضج جو المؤتمرات بالشعارات، تتسلل الرسائل البيئية بخفة ونعومة إلى تفاصيل الحياة اليومية في المدن المستضيفة للمناسبات: لافتة في بهو فندق، أو ملصق على جدار حافلة، يذكرك – بلطف وهدوء – بأن الكوكب يختنق.
• فإذا قدّر لك مثلاً أن تستقل مركبة عامة، قد يفاجئك إعلان يقول بإن مجرد جلوسك في هذا المقعد فإنك تسهم في خفض انبعاثات الكربون بنسبة 85٪.
• إذا أقمت في أحد الفنادق، فقد تصادفك على باب الحمّام لافتة تقول: ‘عزيزي النزيل، يمكنك المساهمة في غرس الأشجار ببساطة: كل خمس مناشف يُعاد استخدامها بدلاً من استبدالها يوميًا، توفّر تكلفة غرس شجرة واحدة’.
• وإذا ما دخلت متجر أحذية، فقد يلفت نظرك إعلان بسيط: ‘نصنع أحذيتنا من خام إطارات العربات المستعملة بعد إعادة تدويرها، ونعبئها في صناديق مصنوعة من ورق معاد تدويره بالكامل. عبارة موجزة، لكنها تعكس اتساع الوعي بمبادئ الاقتصاد الدائري، حتى في أبسط تفاصيل الصناعات اليومية.
• في مؤتمرات المناخ، ترتفع الشعارات وتضعف الالتزامات. فعلى الرغم من انعقاد 29 مؤتمراً للأطراف، لا يزال العالم بعيداً عن المسار الآمن.
• لا تزال الغازات تنبعث من الدول الصناعية بوتيرة متصاعدة، وتتأخر التعهدات، وعلى رأسها تمويل مئة مليار دولار سنوياً للدول النامية، بينما تعجز كثير من هذه الأخيرة عن تنفيذ التزاماتها الطوعية بسبب ضعف القدرات ونقص التمويل والتقنيات.
• ومع ذلك، لا ينكر أن الاتفاقية أفلحت في وضع تغير المناخ على رأس السياسات الدولية، وفرضت اعترافاً رسمياً بالخطر. لكنّ السؤال الجوهري: ما الذي تحقق؟” يبقى سؤالاً معلقاً، إذ لا يزال الفعل دون مستوى الطموح.
• وهكذا، تمضي الاتفاقيات رهينة لوعود مؤجلة، ودعومات مرجأة، فيما تواصل حرارة الكوكب ارتفاعها، وتستمر الأرض في دقّ ناقوس الخطر.
وحتى لقاء جديد في مؤتمر المناخ القادم رقم 30، ,في نوفمبر 2025 بالبرازيل.
آمالي في حسن الخلاص؛ وتحياتي.
عبد العظيم ميرغني
