من حكاوي الغابات مقتطف من كتاب (سنوات فى الغابات)
سيرة وذكريات مدير سابق للغابات بقلم د . عبدالعظيم ميرغنى
حكى ابونا وأبو الغابات كامل شوقي رحمة الله عليه فقال إنه عندما كان مديراً للغابات في فجر الإستقلال، رنَّ جرس هاتف مكتبه ذات صباح باكر، لينقل إليه صوت زعيم الأمة الخالد إسماعيل الأزهري، رئيس الوزراء حينها وأستاذه في كلية غردون قبل ذلك. وبعد التحايا الصباحية -يقول كامل شوقي- بادرني الزعيم بصوت آمر النبرات: “لقد منحنا غابة “بانكيو” للشيخ (….)، وسمى إحدى الإمامات الدينية البارزة وقتها. يقول كامل شوقي بالرغم مما شعرت به من سعادة بالغة ونشوة ملأت عليَّ جوانحي لشرف محادثة رئيس وزراء السودان ما بعد الاستقلال إلا أنني لم أتردد لحظة في أن أرد عليه قائلاً: “أتمنى سيادة الرئيس أن تصبح أعظم رئيس على وجه الكرة الأرضية، أعظم وأكبر من أيزنهاور (رئيس أمريكا وقتها)، ولكني لا أتمنى أن تكون لكم سلطة تستخدمونها في منح ثروات وموارد عامة لخاصة الناس”. ويضيف كامل شوقي: “وأرفع قبعتي تقديراً للزعيم الخالد، إذ لم أسمع منه عن هذا الموضوع بعد ذلك أبداً. وبعد أيام معدودات إذا بجرس هاتف مكتبي يرنُّ لينقل لي صوت ثاني رئيس وزراء السودان بعد الاستقلال الزعيم عبد الله بك خليل الذي خلف الأزهري في رئاسة الوزارة عقب سقوط حكومة الأزهري المفاجئة بعد لقاء السيدين، وبعد التحايا والسلام، بادرني سيادته بصوته العسكري الحازم: “لقد منحنا غابة “بانكيو” للشيخ (…) وسمى ذات الامامة الدينية سالفة الذكر. ولم أتردد -يقول كامل شوقي- في أن أكرر على مسامع سيادته ما قلته للزعيم الأزهري”. ومرة أخرى أرفع قبعتي إكباراً للزعيم عبد الله بك خليل –يقول كامل شوقي- كما رفعتها من قبل للزعيم الأزهري، إذ لم أسمع عن غابة “بانكيو” بعد ذلك إطلاقاً.
نحن بدورنا نرفع قبعاتنا وننحني إكباراً وإجلالاً لعظمة وسمو روح زعيمينا العظيمين الخالدين الأزهري وعبدالله خليل، وللدكتور كامل شوقي كذلك لهذين الموقفين العظيمين والمشرفين. أذكر أيضاً للدكتور كامل شوقي موقفا أخر مماثل يوضح حرصه على المال العام وتنزهه وترفعه عن التكسب منه بحكاية أرويها على لسان إبنه الأكبر مهدي. ذهب كامل شوقي ذات مرة ليعزي الرئيس السابق في فقد له، وفي نهاية المقابلة، سأله الرئيس إن كانت هناك ثمة خدمة يمكن أن يؤديها له، فرد كامل شوقي قائلاً: أوصيك بالغابات خيرا سيادة الرئيس. حدث هذا في حين كان إبنه مهدي عاطلاً عن العمل بعد أن تم انهاء خدماته من شركة النيل للبترول بصورة مفاجئة، وكان إبنه الثاني (فاضل رحمه الله) قد تم تسريحه هو أيضاً من شركة الصمغ العربي. علماً بأن كامل شوقي كان حينها في أمس الحاجة للمساعدة، ولكنه كان كالعهد به دوماً عفيفاً، لا يتطلع أبداً لما ليس له، ولا يطلب شيئاً لنفسه، كان دائم الترفع والتنزه عن كل ما يعتور النفس البشرية من نقائص. ولم يعرف عنه قط أن تكسب أو انتفع هو في نفسه أو احد من أسرته من خدمة قدمها للغابات رغم تطاول عهد خدماته لها وفيها على مدى اكثر من نصف قرن. رحم الله أبونا وأبو الغابات كامل شوقي رحمة واسعة.
