رسائل وخواطر بمناسبتي عيد الأم ويوم الغابات

د. عبدالعظيم مرغني

 


اثنان أعطف عليهما وأشفق: لاعب كرة القدم ومهني الغابات. الأول إن فشل في تسديد ضربة جزاء أو ركلة ترجيح يحاسب عليها فوراً في الحال لأنه لا يفعل فعلته هذه سراً أو في الخفاء بل على مشهد ومرأى من ملايين الناس وعلى الهواء مباشرة، في حين يهدر غيره ألف ألف سانحة في اليوم والليلة فلا يجد من يلومه على واحدة منها لأنه يفعل ذلك بعيداً عن الأنظار؛ فهل إذا ما سقطت شجرة في غابة ولم يكن في الجوار أحد ليرى أو يسمع دوي سقوطها أو ينقل الحدث أيعني هذا أن الشجرة لم تسقط؟ أما الثاني (أعني مهني الغابات) فهو لا ينطبق عليه قول أو يسري مثل قول القائل: تسقط شجرة يسمع الجميع دوي سقوطها، تنمو غابة لا يسمع صدى نموها أحد؛ فالكل يعلم بإخفاقات مهني الغابات حين يخفق، أما صدى سموه وتميزه فغالباً ما لا يجد طريقه إلى الأسماع.
كشفت دراسة الجرد القومي لموارد الغابات التي صدرت عن الهيئة القومية للغابات ومنظمة الفاو في العام 2020م أن مساحة الغابات بالبلاد بلغت 29,8 مليون هكتار، تعادل 15,8 % من مساحة البلاد الكلية، أي أن مساحة الغابات قفزت بنسبة 5% مما كانت عليه عند انفصال الجنوب في العام 2011م. المفارقة الكبرى التي أكدتها الدراسة أن 75% من غابات البلاد توجد في 5 ولايات فقط من بين ولايات البلاد الثمانية عشر. هذا يعني أن التوزيع الطبيعي للغابات غير متناسب مع التوزيع الجغرافي للسكان ويعني أيضاً أن الغابات عليها ضغوط عظيمة، ولأجل هذا ظلت سياسة الغابات في السودان تقوم على الدوام منذ العام 1932 على مبدأ أن الغابات مورد قومي ويدار من منطلق قومي. ومن هذا المنطلق أوصانا أبو الغابات رحمه الله قائلاً: “تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا، سياسة الغابات لسنة 1932 وتعديلاتها”.
تذخر الساحة السياسية السودانية في الوقت الراهن بالكثير من الفعاليات والمثير من النشاطات وتغص بالرموز الوطنية وتعج بمختلف المجموعات والجماعات والفئات الناشطة في شؤون الحكم والسياسة والعمل العام، فمن أراد التمييز بين الصالح والأصلج من بين هذه الفئات أو الجماعات أو المجموعات أو الرموز فعليه بمعايير الحكم الراشد ومقاييس السياسة الرشيدة التي أرساها قدماء الملوك السودانيين العظماء من أمثال ترهاقا وخلفه شابكا، الذين حكموا السودان ومصر وفلسطين، فأسس حكمهم ومعاييرها لم تقم فقط على عناصر شخصياتهم الكارزمية وحدها، أو مواهبهم العسكرية فحسب، بل قامت -علاوة على ذلك- على جلائل أعمالهم وبعد نظرهم. فمن جلائل أعمال ترهاقا إقامته حزام شجري واق حول مدينة الكوة لمحاربة التصحر والزحف الصحراوي وزخف الرمال، وجعل هذا الحزام ضمن أبرز إنجازات حكمه. ومن جلائل أعمال الملك شابكا أنه استبدل كل حكم بالإعدام في مصر بالسجن والأعمال الشاقة، فسخر المساجين لعمل جسور حول المدن والقرى المصرية عندما يفيض النيل بمعنى أنه عمل عملاً اجتماعياً للسجون والمساجين. فمن علامات المرشح الصالح أن تكون الأعمال الاجتماعية والبيئية على رأس أولويات أجندة برنامجه السياسي.
من قوال الرئيس الأمريكي أبراهام لينكولن “لو كان لدي ثماني ساعات لأقطع شجرة، لقضيت ست ساعات منها أسن فأسي”، ما أراد الرئيس الأمريكي الخالد قوله هو ضرورة الاستعداد الكافي لإنجاز أي مهمة مهما بدت بسيطة، لا تستغرق سوى دقائق، لا أن تقطع الشجرة.
علمتنا الغابات ألا نأخذ، إلا بمقدار ما نعطي، إن لم يكن بأقل مما نعطي. ففي عالم الغابات والأشجار “يحصد الناس ما غرس أجدادهم وآباؤهم، ويغرسون ليحصد أبناؤهم وأحفادهم”، فإن حصدوا ولم يغرسوا، أو غرسوا أقل مما حصدوه، حرموا أبناءهم وأحفادهم أو حالوا بينهم وبين الحصاد الأوفى.
علمتنا الغابات، أن الناس لا ينقصهم الوعي بواجب المشاركة في الشئون العامة، بقدر ما ينقصهم الحافز. فمن تجاربنا المرموقة في إدارة الغابات النجاح الباهر الذي تحقق بالمشاركة الشعبية في بعض مناطق السودان مما شهد به خبير منظمة الفاو، مدير غابات جنوب أفريقيا الأسبق هندريك كوتسي، بقوله في تقرير رسمي: (الهيئة القومية للغابات، إحدى الدرر المتلألئة في مجال غابات تنمية المجتمعات المحلية في أفريقيا، فالعديد من المشروعات في أواسط وغرب السودان تقوم بتنفيذها المجتمعات المحلية تحت إشراف موظفي الإرشاد بهيئة الغابات حيث يتم تنزيل كامل لسلطة إدارة الغابات المركزية إلى المستوى المحلي، ويعزى نجاح هذا الأنموذج إلى المردود الاقتصادي الذي تجنيه هذه المجتمعات من إدارتها لهذه الغابات واستثماره لتوفير الخدمات الصحية والتعليمية في المجتمعات الريفية التي تقوم بمهمة حماية وإدارة الغابات التابعة للهيئة).
أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة اليوم العاشر من شهر مايو من كل عام يوماً عالمياً لشجرة الأرقان التي تنتج الزيت المشهور تجارياً وتشكل عنصرًاً أساسياً في النظام الزراعي-الغابي-الرعوي اعترافاً بقيمها الكبرى في دولة المغرب. وأعلن المؤتمر العام لليونسكو اليوم السادس والعشرين من شهر نوفمبر من كل عام يوماً عالمياً لشجرة الزيتون إحتفاءً بفضلها في تونس. وفي السودان نحتفل نحن محلياً في اليوم السادس والعشرين من شهر نوفمبر من كل عام بعيد حصاد الصمغ العربي وشجرته، فلماذا لا نجعل من هذه المناسبة مناسبةً عالمية إكراما لشجرة الهشاب المورد الطبيعي المهم، والركيزة الأساسية من ركائز التنمية المستدامة بطول وعرض حزام الصمغ العربي الأفريقي والسوداني نظراً لتعدد استخداماتها ودورها في وتحقيق أبعاد التنمية المستدامة الأربعة (الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية). من يتولى المبادرة؟
إن استشعار خطر إزالة الغابات جعل الجمعية العامة للأمم المتحدة تعلن يوم 21 مارس من كل عام، يوماً عالميا للغابات. ولعل موافقة يوم عيد الغابات يوم عيد الأم في الوطن العربي (21 مارس اليوم الأول من فصل الربيع) إشارة إلى أن الغابات هي أيضاً أم. هي أم للموارد الطبيعية المتجددة الماء والتربة والمرعى والحياة البرية الأليفة والمستوحشة، وحامية لحماها وضامنة لاستدامة عطائها، ولعل في الجمع بين الاحتفالين (عيد الأم العربي ويوم الغابات)، مدعاة لأن يكون شعار الاحتفال بهما شعار جامع، وليكن “شجرة لكل أم” أو “غويبة لكل أم” أو “غابة لكل أم”. فالأم العربية لا تستأهل أقل من غابة.

وكل عام والجميع بخير،

مع تحياتي عبد العظيم ميرغني

5555
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

English