قراءات من كتاب وفاة موظف

بقلم : د. عبد العظيم ميرغنى

قرأت لكم من كتاب “وفاة موظف” ورواية “موظف عادي جداً”ً”. فما دام هناك مجال للسخرية في محتمع ما هنالك مجال للإصلاح”. تبادرت إلى ذهني هذه المقولة وأنا أطالع تحقيقاً حول ظاهرة “كسير الثلج ولعق أحذية الرجال دون حياء” التي يقول التحقيق أنها باتت ظاهرة شائعة، وسلوكاً منتهجاً من البعض على نطاق الأحزاب السياسية والمؤسسات الحكومية لتحقيق أهدافهم ومصالحهم الذاتية. وظاهرة “كسير الثلج” (التملق والكذب والنفاق) أبدع في التعبير عنها الأديبان العالميان، الروسي “انطون تشيكوف” في قصة “وفــاة مــوظــف” و الايطالي “قنتثشرو تشرامي”. في رواية “موظف عادي جداً”، ولعل الكثيرين قد اطلعوا عليهما. وقد تحولت رواية “موظف عادي جداً” إلى فلم على يد المخرج “ماريو مونيتشيلي” الذي جرت على لسانه المقولة التي استهللنا بها هذا المقال.

وظاهرة “كسير الثلج ولعق أحذية الرجال بلا حياء” ظاهرة سائدة -حسب قصة “تشيكوف” ورواية “تشرامبي”- في المجتمعات الإنسانية الاستبدادية التي تنعدم فيها الحريات وسيادة حكم القانون، والمجتمعات التي تفقد البوصلة الأخلاقية والثوابت الاقتصادية والسياسية في حياتها التقليدية، مثلما حدث في المجتمع الإيطالي في مرحلة تطوره الصناعي في سبعينات القرن الماضي.

تحكي قصة “موظف عادي جداً” عن حالة موظف صغير شارف على التقاعد، مخلص في عمله يقضي معظم حياته في تصريف معاملات الإحالة على التقاعد في إحدى الوزارات بانتظار أن يجئ دوره كي يتقاعد هو أيضاً، وفي أثناء ذلك يحاول توظيف ابنه في وظيفة أعلى من وظيفته في الوزارة نفسها التي يعمل فيها، وهو على استعداد لأن يتملق رؤساءه، وأن يتحايل على القانون من أجل ذلك، بل يرضى بالانضمام إلى الماسونية رغم عدم معرفته بأي شئ عنها إرضاء لرئيسه. وعندما يقتل إبنه عرضاً في حادث سطو مسلح على أحد المصارف في وضح النهار يسعى للانتقام من القاتل شخصياً بل يقوم بتعذيبه حتى الموت عوضاً عن تسليمه للعدالة. ويرمز التغير الأخلاقي الذي يحدث في شخصية هذا الموظف البسيط للتغيرات الاجتماعية التي حدثت في المجتمع الإيطالي. فاللجوء إلى الماسونية مثلاً تعبير عن انحسار سيادة القانون وضعف مؤسسات الدولة أمام ظاهرة المحسوبية. وتمثل الأزمة التي يعيشها بطل القصة بفقده ولده أزمة مجتمع فقد البوصلة الأخلاقية ، وأزمة سياسية مؤسساتية تفتح الطريق أمام الأساليب الملتوية في التعامل الاجتماعي وتقود نحو درجة أعلى من العنف الإجتماعي.

وتحكي قصة “وفــاة مــوظــف” عن مظاهر الرعب والخوف المغروس في أعماق الإنسان البسيط والبائس تجاه كل ما يمثٌل السلطة العليا مما دفعه الى أن يتصرف تصرفاً مضحكاً ومبكياً معاً في ذات الوقت.

تحكي القصة عن موظف بسيط حضر عرضاً مسرحياً، وفي أثناء المشاهدة، فجأة تقلص وجهه، وزاغ بصره، واحتبست أنفاسه، وانحني و… آتششش عطس، ولم يشعر الموظف بأي حرج، ومسح أنفه بمنديله، وكشخص مهذب نظر حوله ليري ما إذا كان قد ازعج أحدا بعطسه، وعلي الفور أحس بالحرج. فقد اكتشف أن رذاذ عطسته قد تطاير ليصيب صلعة مسؤول كبير شاء القدر أن يكون جالسا أمامه. ومن ثم بدأ الموظف سلسلة اعتذاراته للمسؤول مبلل الصلعة، بداية في المسرح، حيث أفسد عليه متعة مشاهدة العرض. ومن بعد المسرح إنتقل إلى موقع عمل المسئول، حيث أخذ في اقتناص الفرص لمقابلته وتأكيد اعتذاراته. وبالرغم من أن المسؤول تقبل الاعتذار بصدر رحب وأبدي العفو مراراً، ثم يؤكد عليه، ويتبعه بأمر رسمي، إلأ أن الخوف لم يبارح قلب الموظف، فدفعه للتردد على مكتب المسؤول لتكرار الاعتذار تلو الاعتذار بلا انقطاع، مما اضطر المسؤول في نهاية الأمر إلى تعنيفه وطرده من مكتبه، فخرج إلي الشارع وهو يجرجر ساقيه وقد أحس بشيء في بطنه يتمزق، وعندما وصل بيته استلقي علي الأريكة دون أن يخلع ملابسه، ومات.

فحوى الرواية أن هذا الموظف المسكين حينما عطس وتطاير رزاز عطسته وبلل صلعة المسئول الكبير ثم أخذ في تكرار سلسلة إعتذاراته، لم يفعل ذلك لشعور منه بالذنب ووخز الضمير ولكن خوفاً ورعباً من العقاب الذي يمكن ان ينزله به ممثٌل السلطة الجائرة والظالمة في ذلك المجتمع الإستبدادي لأي سبب من الأسباب مهما تكن تافهة، في حالة ساور الظن ذلك المسؤول بأن الموظف قد أساء اليه متعمداً. لذلك سيطر الرعب على الموظف الذي لا يمتلك أبسط الحقوق الطبيعية التي يتمتع بها الانسان الاعتيادي والطبيعي في المجتمعات الديمقراطية التي تسود فيها الشفافية والعدالة. وخير مثال للعلاقة بين ممثل السلطة حلقات مسلسل “نعم .. سيدي الوزير” الكوميدية البريطانية، والتي تتمحور حول شخصيتي وزير ووكيل. وتبدأ القصة بفوز حزب الوزير بالانتخابات وتعينه وزيراً للشئون الإدارية حيث يعمل مع الوكيل. والاثنين مصالحهما متضاربة للغاية. فـالوزير كل همه منصب على الحفاظ على شعبيته وإدارة الوزارة وفق سياسات حزبه الرامية لسن تشريعات وإحداث تغييرات هيكلية في الوزارة ينجم عنها تخفيض العمالة. ويرى الوزير أن قيامه بهذه المهمة -أو على أقل تظاهره بالقيام بها- سيدعم مركزه الانتخابي. بالمقابل كان هم الوكيل منصباً نحو تحقيق ميزانية كافية للإبقاء على الأحوال بالوزارة على ما هي عليه ما أمكنه ذلك. من أجل ذلك اجتهد الوكيل في التصدى لمحاولات الوزير بهدف إجهاضها. وكان الوكيل كثيراً ما ينجح ولكنه كان في كل مرة ينجح فيها يجتهد في إيجاد مخرج ليغطي به فشل وزيره أمام الرأي العام. من هذا التنازع الحادث بين الأثنين باسلوب ديمقراطي نبعت الفكاهة التي حفلت بها الحلقات، وما تضمنته من حوارات طريفة وساخرة بين موظف الخدمة المدنية (الوكيل) ومسئول السلطة (الوزير)، كل في حدود صلاحياته، دون خوف من الموظف أو حاجة لتملق الوزير…

5555
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

English