أنعي لكم اليوم رجلا فاضلا وكريما، أنعي استاذي المشرف على دراستي في مرحلة الدكتوراة البروفيسور “بيتر ماقنوس اليكساندر تيقرشتدت”، أو “بيتر النمر” كما يعني اسمه بلغة قومه. وهو فنلندي من أصل سويدي. كان “بيتر”، هكذا كان يحب أن يناديه طلابه باسمه الأول مجرداً من الألقاب والتشريفات، يشغل وظيفة رئيس قسم النبات وتربية الأشجار بكلية الزراعة والغابات بجامعة هلسنكي. ألتقيته في حوالى أغسطس 1990 حينما كنت في دورة تدريبية قصيرة بفنلندا. كان وقتها عائداً لتوه من جمهورية النيجر بغرب أفريقيا حيث كان يعمل بمركز الساحل لبحوث المناطق القاحلة بمدينة نيامي. وهناك تعرف على شجرة الحراز، أو “الشجرة المجنونة” كما كان يسميها.
رحب بي “بيتر” بحرارة حين التقيته. وعرض عليَّ العمل معه في مشروع بحثي يتعلق بمعرفة الموطن الأصلي لشجرة الحراز، التي يعتقد هو وزميل له أمريكي الأصل يدعى “فاندينبلدت” كان يعمل معه بالنيجر، أن موطن الشجرة الأصلي هو منطقة جبل مرة بغرب السودان. يومها زودني بورقة تتضمن نظريتهما -هو وزميله الأمريكي- بالموطن الأصلي للحراز. فحوى هذه النظرية أن هناك نوعين من الحراز، نوع يعيش في منحدرات جبل مرة وسفحه والهضاب المرتفعة وهذا النوع مقاوم للجفاف. ونوع آخر يعيش في الوديان وضفاف الأنهار وهو غير مقاوم للجفاف. وتفترض نظرية “تيقرشتدت – فاندينبلدت” أن الحراز انتشر من منطقة جبل مرة لباقي أفريقيا، فانتقل النوع الأول إلى غرب أفريقيا عن طريق الرعاة وحيواناتهم، بينما انتشر النوع الثاني عبر الوديان كوادي أزوم مثلاً ثم منظومة نهر النيل وروافده المائية إلى وسط وشرق أفريقيا ثم إلى جنوبها وغربها. ومن هناك لبقية أنحاء أفريقيا.
بعد حوالي ثلاثة أشهر من مقابلتي ل”بيتر” كنت قد انتظمت في الدراسة تحت إشرافه. فوفر لي أولاً مكتباً خاصاً بي في بناية كلية الغابات القديمة القائمة في وسط المدينة حتى يكفيني شر التنقل اليومي من منزلي بضاحية “كانيلماكي” بالجزء الشمالي من “هيلسنكي” عبر وسط المدينة للوصول إلى موقع الكلية الجديدة بضاحية “فيكي” بالناحية الشرقية من المدينة. ثم حينما جاء الصيف بالإجازة الصيفية التي تغلق الجامعة فيها أبوابها، دبر لي عملاً بمحطة بحوث غابات “بونكاهاريو “التي تقع في شرق فنلندا، في منطقة البحيرات الشرقية المتاخمة للحدود السوفيتية. كنت في بداية فترة عملي بـ”بنكهاريو” استقل القطار عصر كل جمعة لقضاء عطلة نهاية الأسبوع مع الأسرة بهلسنكي لأعود لموقع عملي بالقطار القادم عصر الأحد من “هلسنكي”. ولكن بمرور الوقت ومع الإحساس بإرهاق الرحلة الاسبوعية الطويلة والمتكررة وفر لي “بيتر” كوخا صيفيا على حافة إحدى تلك البحيرات الساحرة، مكتملاً من كافة النواحي بما في ذلك الساونا الفنلندية الشهيرة. فانتقلت الأسرة معي إلى “بونكهاريو” واستمتعنا بالساونا والبحيرة والسكن الفاخر المريح دون مقابل مادي.
كان “بيتر” من نوع الأشخاص الذين يعطونك انطباعاً بأنك تعرفهم “من زمان”، رغم أنك تلتقيهم للمرة الأولى، رجلاً ودوداً ومتواضعاً غاية في التواضع محباً للطلاب الأجانب خاصة الأفارقة، يحرص دوماً على تفقد أحوالهم وتقديم المساعدة لهم. ما قربنا أكثر من “بيتر” كطلاب أنه كان لا يتحرج في أن يحكي لنا بعضاً من جوانب حياته الخاصة وما قاساه في طفولته الباكرة من حرمان، وعن هجرته في صباه الباكر مع أسرته إلى دولة السويد المجاورة بعد أن ضربت فنلندا مجاعة طاحنة، حيث شاهد البرتقال وتذوق طعمه لأول مرة في حياته حسب روايته لنا. فهو في مواساته للطلاب الأفارقة ينطلق من عاطفة حقيقية تجاههم مبعثها احساسه ما عاناه في طفولته من حرمان. ومما جذبني أكثر لـ”بيتر” توازنه ووسطيته في الحكم على الأشياء. كان لا يبدي رأياً دون أن يسمح بمساحة -مهما ضاق هامشها- للاستدراك ومراجعة النفس أو للتراجع تحسباً للرأي الآخر، عسى أن يكون معارضوه على حق. من بين التعبيرات المحببة إلينا والتي اقتبسناها منه ووظفناها في السخرية على أنفسنا كلما سئل أحدنا عن انطباعاته في أعقاب إكمال إحدى الدورات الدراسية أو التدريبية في أحد فروع المعرفة، عبارة “I feel confused! But at a higher levels”. وجه الغرابة في هذه العبارة هو مفارقتها للمنطق الشائع، والقائل بأن هناك علاقة مباشرة بين الكسب العلمي ودرجة اليقين المعرفي، بمعنى أنه كلما نهل المرء من العلم واغترف من المعرفة، كلما ازداد ثقة ويقيناً وطمأنينة. فالعبارة تحمل في طياتها إشارة لطيفة إلى أن الكسب العلمي ليس هو مجرد إضافة علمية جديدة إلى المخزون المعرفي القديم المتراكم لدينا سلفا، وأنه بالضرورة يفضي إلى المزيد من التصديق والتسليم بما وقر في القلب. بل أن العملية التعليمية عادة ما تتضمن هدماً وتقويضاً للمعارف القديمة وتأسيساً وبناءَ لمعارف جديدة، ينشأ عنها واقع جديد يبعث الفضول والدهشة ويسبب الحيرة والقلق العقلي، الذي يكون حافزاً لارتياد آفاقٍ أرفع وأرحب، وبحثا عن حقيقة أشمل وأعمق وأكثر إحاطة بالواقع.
كطلاب لم ينحصر إعجابنا بـ”بيتر” على النواحي الإنسانية وحدها، بل شمل ذلك طريقة تفكيره وأسلوبه في التدريس. فقد كان لا يأخذ الأمور إلا من جوانبها الوضيئة الإيجابية. كان أسلوبه في التدريس يروقني كثيراً إذ كان يتبع عادة طرح السؤال ثم يساعدنا على استنباط إجابته، دون لجوئه لأسلوب “تلقيم وتلقين” الإجابات الجاهزة المعدة سلفاً. كما كان يقبل استجاباتنا وآراءنا على علاتها. كانت علاقته بنا كطلاب علاقة أشبه بعلاقة الزمالة. باغتني مرة أثناء محاضرته متسائلاً: لماذا تكون الأشجار المدارية دوماً كثيرة التفرع ومُعْوجَّة السيقان على عكس ما هو عليه حال الأشجار في المناطق الباردة؟ فلم أحر جواباً، فقلت من قبيل “الممازحة” لعل ذلك نتاج “للقضم” المتكرر من قطعان الزراف والجمال للأشجار المدارية، ضحك بعض الزملاء ولكنه أخذ الأمر مأخذ الجد وجعله موضوعاً للنقاش. وسألنا ذات مرة: لماذا الأنواع الشجرية المستجلبة تحقق دوماً إنتاجية أفضل في مواطن هجراتها الجديدة مقارنة بما تحققه في مواطنها الأصلية. ففي البرازيل مثلاً بلغت إنتاجية هكتار الكافور (البان) الأسترالي الأصل 20 مرة ضعف متوسط إنتاجها في أستراليا، موطنها الأصلي. وكذا الحال بالنسبة لأشجار التيك “الميانماري” الذي إستجلبه الرعيل الأول من رجال الغابات السودانيين من موطنه الأصلي “ميانمار” (بورما سابقاً) وتوسعوا في غرسه في جنوب السودان، فتفوق على التيك الذي ينمو طبيعياً في “ميانمار” في قوة وجودة أخشابه؟ فقلت ما معناه لعلها ذات الأسباب والنواميس الكونية التي تسري على عالم الناس هي ذاتها التي تتحكم في عالم الشجر. فكما أن “زامر الحي لا يطرب” وأنه “لا كرامة لنبي في قومه” وأن (من يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغماً كثيراً وسعة…) في دنيا الناس؛ فكذلك الحال للشجر. فهو يَعِدُ بقدر رجائه ويَهَبُ بقدر مخاوفه ولذلك نجده يسخو في العطاء في مهاجره الجديدة. فجعل “بيتر” من إجابتي موضوع نقاش خلص إلى الأسباب والعوامل التي يعدها علماء الأحياء تفسيراً علمياً لتلك الظاهرة.
كان “بيتر” شخصية مفعمة بالحياة ومتعددة الهوايات كالتجديف والغناء والعزف الموسيقى وهواية البث والتولصل الأذاعي (الراديو) وممارسة سفارة النوايا الحسنة بين الشعوب. وأحفظ له في هذا السباق جميل مساندته للسودان بعيد الغزو العراقي للكويت حينما خرجت منه وكالات العون الغربي، ومن بينها وكالة التنمية الفنلندية الدولية التي أوقفت كافة مشاريع عونها للسودان في مجال الغابات. فقد انتهز “بيتر” فرصة اللقاء الذي نظمته الحكومة الفنلندية بجامعة “هلسنكي”، وجمعت فيه بين وفد الحكومة السودانية بقيادة المرحوم مولانا “عبد السميع” وزير العدل حينها، ووفد المعارضة بقيادة المرحوم الدكتور عزالدين على عامر، لينادي على حكومة بلاده بمعاودة عملها في مشروع الغابات بالسودان، وطلب منى نرافقته لخضور اللقاء وهناك تداخل مشددا على ضرورة عدم ربط المساعدات في مجال تنمية الغابات طويلة الأمد بأجندة السياسة نسبة لأن تنمية الغابات يتأثر بها فقراء المواطنين أكثر مما تتأثر بها الحكومات. وهنا لا بد لي من إبداء ملاحظة حول مدى الدهشة التي أصابت الفنلنديين المنظمين لذلك اللقاء السوداني-سوداني. فقد عمد المنظمون الفنلنديون على تنظيم اللقاء بحيث يكون هناك فصل كامل بين وفدي الحكومة والمعارضة في داخل وخارج قاعة اللقاء، لإدراكهم مدى المرارات التي كان يحملها كل جانب للآخر. وتحسباً لأي طارئ يفسد عليهم ذلك الحدث الذي بذلوا فيه كل جهدهم لإخراجه بالوجه الذي يريدون له، ولكن كم كانت دهشتهم حين شاهدوا أعضاء الوفدين يكسرون قواعد البرتوكول الموضوع لهم، ويختلطون ببعضهم ويأخذون بعضهم بالأحضان، فكان السؤال: أين المشكلة إذن؟ لماذا لا تلتقون ببعضكما هناك في الخرطوم؟
كان بيتر عالماً ومعلماً وعلماً في محال تخصصه الغلمي فمن انحازاته زهور هجين Rhododendron بيضاء من فدغير سوء مسجلة باسمه اكتسحت الاسواق العالمية. لقد فقده طلابه وبلده والمجتمع العلمي بكامله وفقدته الإنسانية جمعاء فلله ما أعطى ولله ما أخذ.
