سُنطتنا في ظل سلطتنا

محمد أحمد الفيلابي

أسعدتني دعوة الزملاء من حملة جمرة الإعلام البيئي للمشاركة في هذه المنصة الإلكترونية الجديرة بالدعم، ذلك منذ بدء المشاورات حول الاسم. وزاد من سعادتي أن يقع الاختيار على مقترحي الذي رأيت أنه يليق بمنتج إعلامي دوري بيئي في زمن (تُغمر) فيه قضايا البيئة في مستنقعات الإهمال والتجاهل، مع محاولات حثيثة للمهتمين بالشأن، إعلاناً وإعلاماً بما يحدث لشجرة السنط على طول مجري النيل، والأنهر والخيران الفرعية من هجمات مؤسسة وعشوائية دون النظر للعواقب.
ولما كان إهتمامي بالأمر قديماً فقد كتبت (28 نوفمبر 2018) في زاويتي الراتبة (إيكولوجيا) بصحيفة العربي الجديد تحت عنوان (مائة يوم من الغَمْر):

“وحدها شجرة السنط قادرة على تحمّل الغمر في المياه لمائة يوم، ما يجعلها أنسب الأشجار في الأراضي المنخفضة حول ضفاف الأنهار في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية من آسيا وأفريقيا وأميركا وأستراليا. وهي وحدها القادرة على الإمساك بعروق الأرض بصلابة مانعة هدم جروف النيل، وقد شبّهها أحدهم برموش العين التي تحبس الدمع وتمنع تقرّح الأجفان.

ولأنّها تتميّز بصلابة خشبها وخصائصها الطبية المتعددة، فإنّ العبرانيين قدّسوا هذه الشجرة في الأزمنة الغابرة. ومثلما تحتمي بها الطيور المهاجرة من شمال القارة (الأفريقية) في فترة الخريف، يحتمي بها فقراء بلادي من الرعاة والمزارعين، بينما يستخدم سكان الجوار النيلي وصيادو أسماك أخشابها المتينة في صناعة قواربهم وأسقف مساكنهم وأثاثهم. هؤلاء كذلك استخرجوا من لحاها وثمارها عقاقيرهم، ومواد يدبغون بها جلود الحيوانات المستخدمة في نقل وتخزين الماء والحبوب وغيرها. وفي أحيان كثيرة، يُستخدم جذع هذه الشجرة في صناعة المناحل وفي بناء السياجات الحامية لبيوت الفقراء والمزارع.

ظلت شجرة السنط منذ آلاف السنين تنمو من دون مساعدة من البشر، ويكفي أن تسقط ثمارها فتلتقطها الماشية لتتمّ في أحشائها المعالجة الكيميائية للبذرة فتصبح بالتالي جاهزة للإنبات ما إن تخرج مع مخلفات الماشية. وتأتي الحشرات لتلتهم ما حولها وتتركها عرضة لوطء الحوافر، فتنغرس في التربة لتنبت وتصير شجرة بعد موسم من الغمر في المياه. هكذا، أثبتت الحفريات أنّ الفراعنة استخدموا خشب السنط في أعمال النجارة ولحاءه في الدباغة وأوراقه وأزهاره في أغراض طبية، فهو استُخدم كدواء لمعالجة اعتلال الجسد والقضاء على الدود والسعال وتورّم القدمَين وتسكين ألم العظام المكسورة.

تستوطن شجرة السنط مناطق كثيرة من أفريقيا (السودان، مصر، المغرب، جنوب موزمبيق، وجنوب أفريقيا)، وشرقاً في كامل شبه الجزيرة العربية وثمّ باكستان والهند وبورما. كذلك زُرعت بشكل واسع في خارج مواطنها الأصلية، في زنجبار وأستراليا.

على الرغم من كلّ ذلك، من الممكن أن يدّعي أحدهم أنّ قيمتها صفر. نعم، هذا صحيح. أحد المسؤولين ظلّ يصرّح بذلك، ويسعى إلى إعدام الغابات النيلية الممتدة على طول النيل الأزرق (150 كيلومتراً)، ويسوق مبرراته (اقتصادية فقط) من دون أن يتطرّق إلى الجانبَين الاجتماعي والصحي إلا في إطار اتهامات بلا أدلّة، تمهيداً لإقناع الآخرين بضرورة زراعة أشجار بستانية. ويُقال إنّ التجارب أثبتت عدم قدرتها على تحمّل الغمر في المياه لأيام – دع عنك الأيام المائة – وأنّه وفقاً للتجارب ليس بمقدورها الصمود في وجه الهدّام (انجراف التربة حول الأنهار والخيران) مثل أشجار المانجو. أمّا أشجار الموز الذي يزمع المسؤول زرعها محلّ أشجار السنط في الغابات المحجوزة بالقانون، فقد تثمر سريعاً غير أنّ لا أحد يستطيع تأكيد استمرارية عطائها كما هي الحال مع السنط.”.. إنتهى
أود في أولى إسهاماتي في هذه الزاوية أن أؤكد أن فعل التغيير الذي ننشده في المجال البيئي لا ينفصل عن التغيير الشامل الذي قامت لأجله ثورة ديسمبر المجيدة، سعياً نحو (سلطة) تحترم الشعب ومقدراته، ومستقبل أجياله، ما يعني أن العمل في المجال البيئي من أهم الركائز التي تحتّم علينا كـ(إعلاميين بيئيين) أن نواصل حفر الصخر الذي بدأناه، توسيعاً لدوائر المعرفة والإدراك، وبناء للإهتمام لدى العامة، ومتخذي القرار بشكل أخص. ولتكن (السنطة) منبراً للرصد والتحليل والتوثيق، من أجل التقييم الرامي للتبني الحقيقي لقضايا البيئة السودانية.
ونلتقي

5555
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

English