شجرة الأبنوس في السودان: قصة خشب نفيس وتراث عريق
شجرة الأبنوس السودانية (Dalbergia melanoxylon) تُعدّ من الكنوز البيئية والثقافية التي تزخر بها البلاد، حيث تجمع بين القيمة الاقتصادية العالية والتراث الثقافي العريق.د.طلعت دفع الله عبد الماجد
“شجرة الأبنوس في السودان: قصة خشب نفيس وتراث عريق”
د. طلعت دفع الله عبد الماجد
شجرة الأبنوس السودانية (Dalbergia melanoxylon) تُعدّ من الكنوز البيئية والثقافية التي تزخر بها البلاد، حيث تجمع بين القيمة الاقتصادية العالية والتراث الثقافي العريق.
التصنيف النباتي والأسماء المحلية
الاسم العلمي: Dalbergia melanoxylon
العائلة: Fabaceae (البقوليات)
الفصيلة الفرعية: Faboideae
الأسماء المحلية في السودان:
بابنوس, ابنوس، بيغبويو, بوكاغو, تشيللا, ديد, فيتي, فونيتى, جالهلاهي, لور, ريد, ريت, روغبي, شامي, تاريتش, تاريه
التوزيع الجغرافي والبيئة:
تنتشر شجرة الأبنوس في السودان في مناطق متعددة، منها:
دارفور وكردفان والنيل الأزرق وكسلا وأعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية
تنمو هذه الشجرة في السهول الطينية والسافانا ذات الأعشاب الطويلة، وغالبًا في المناطق الصخرية أو الأودية ذات التصريف المحدود.
يوجد نوع آخر من الأبنوس يُعرف باسم ماكسار، وينمو في إندونيسيا. يتميز هذا النوع بجمال فريد ناتج عن احتوائه على حبوب صلبة متعددة الألوان تضفي عليه مظهرًا جذابًا ومختلفًا. كما يوجد أبنوس سميك الأزهار الذي يعتبر موطنه الأصلي غرب أفريقيا.
تنتشر أنواع الأبنوس المختلفة أيضًا في مناطق أخرى مثل الفلبين ومدغشقر وجنوب أفريقيا والأمريكتين ، مما يدل على التوزيع الواسع لهذه الأشجار القيمة في المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية حول العالم.
الخصائص الخشبية والاستخدامات:
يُعتبر خشب الأبنوس من أثمن أنواع الأخشاب في العالم، ويتميز بالآتي:
اللون: أسود داكن مع لمعة طبيعية.
الصلابة: عالية جدًا، مما يجعله مقاومًا للتآكل والرطوبة.
وللأبنوس أنواع أخرى تختلف في لونها وخصائصها. الخشب الجوفي يتميز بلونه الداكن العميق، بينما يظهر خشب النسغ بلون رمادي فاتح. وعلى الرغم من صلابته المعروفة، يتمتع الأبنوس بميزة فريدة وهي سهولة نحته وتشكيله، مما يجعله مادة مثالية لإبداع التحف الفنية الدقيقة والتماثيل الرائعة. كما أنه يتحمل درجات متعددة من التلميع، مما يضفي عليه بريقًا ولمعانًا يزيد من جماله.
الاستخدامات :
صناعة الآلات الموسيقية مثل الكلارينيت والأوبوا.
صناعة الأثاث الفاخر والتحف الفنية.
مقابض السكاكين الفاخرة والأدوات الدقيقة.
شجرة الأبنوس في التراث السوداني
التسمية والانتشار الجغرافي
تُعرف شجرة الأبنوس في السودان محلياً باسم البابنوس (جمعها «البابنوس» ومفرده «بابنوسة»)، وقد سُمّيت على هذا الأساس مدينة بابنوسة بغرب كردفان لكثرة انتشار هذه الأشجار في محيطها. ويُذكر أن الأبنوس ينمو في مناطق الحزام السافاني السوداني؛ حيث تبرز بؤر انتشار له في النيل الأزرق وجنوب كردفان وجنوب دارفور حتى سفوح جبل مرة.
يُعدّ ارتباط أسماء القرى والمدن السودانية بالأشجار والنباتات المحلية ظاهرة ثقافية عميقة الجذور، تعكس العلاقة الوثيقة بين الإنسان والبيئة في السودان. فقد أُطلقت على العديد من المناطق أسماء مستمدة من الأشجار التي كانت تميزها، مما يدل على التقدير العميق للطبيعة ودورها في تشكيل الهوية المحلية. نجد أمثلة عديدة على هذا الارتباط بين الأشجار والتسمية الجغرافية, وهنا مجرد مثال بسيط: سنطة: سُميت نسبةً إلى شجرة السنط (الأكاسيا)، التي تنتشر في مناطق السافانا وتُستخدم في صناعة الفحم والأخشاب.
طلحة: تُشير إلى شجرة الطلح، المعروفة بخشبها القوي واستخداماتها المتعددة في البناء والوقود.
كترة: سُميت بهذا الاسم نظرًا لكثرة الأشجار في المنطقة، حيث تعني “كثرة” أو “وفرة” في اللهجة المحلية.
هشابة: تُشير إلى شجرة الهشاب، التي تُستخرج منها صمغ الهشاب المستخدم في الصناعات الغذائية والدوائية.
لعوتة: سُميت نسبةً إلى شجرة اللعوت، التي تنتشر في بعض مناطق السودان وتُستخدم في الطب الشعبي.
طندبة: تُشير إلى شجرة الطندب، المعروفة بثمارها التي تُستخدم في بعض الأطعمة المحلية.
أبو عشر والعشرة: سُميت بهذا الاسم نسبةً إلى شجرة العشر، التي تُستخدم في الطب التقليدي لعلاج بعض الأمراض.
سيالة: تُشير إلى شجرة السيال، التي تُستخدم في صناعة الفحم والنجارة.
سلمة: سُميت نسبةً إلى شجرة السلم، التي تُستخدم في الرعي وتوفير الظل.
السمرة: تُشير إلى شجرة السمر، المعروفة بخشبها القوي واستخداماتها المتعددة وهكذا تتوالي أسماء القري والمدن باسم الأشجار.
هجليجة: سُميت نسبةً إلى شجرة الهجليج التي لها استخدامات عديدة في الطب الشعبي. وارتبطت شجرة “الهجليج” بمحمد أحمد المهدي عندما اختار مجموعة منها في شمال أم درمان مكانا لمعسكرات قواته في خضم تحضيراته لفتح الخرطوم في العام 1884، حيث تلقى بيعة أهالي المنطقة تحت ظلها.
ام دوم: نسبة لأشجار الدوم
الشجرة: وتشير واحدة من الروايات إلى أن منطقة “الشجرة” الحالية في جنوب الخرطوم، التي تعتبر من أهم المناطق العسكرية في البلاد سميت بهذا الاسم، بعد دخول الإنجليز الخرطوم في القرن التاسع عشر؛ حيث اتخذوها مكانا للاستراحة من حر الخرطوم.
وتقول رواية أخرى إن الشجرة ذاتها كانت مكانا اختاره عبد الرحمن المهدي نجل مؤسس الثورة المهدية محمد احمد المهدي للاستراحة خلال رحلاته الدائمة بين الخرطوم ومنطقة الجزيرة أبا معقل الأنصار.
هذا التداخل بين الطبيعة والثقافة يُبرز كيف أن الأشجار ليست مجرد عناصر بيئية، بل هي جزء لا يتجزأ من الهوية السودانية، تُخلّد في الأسماء والذكريات، وتُشكل روابط عميقة بين الإنسان ومحيطه الطبيعي.
هذه التوزيعات جعلت شجرة الأبنوس مدخلاً مهماً للخشب الثمين في هذه المناطق، فقد ظلت مدار اهتمام السكان المحليين لاستغلالها في الحرف والأثاث الفاخرة.
حضور الأبنوس في الفنون والحرف:
برزت أخشاب الأبنوس في الحرف اليدوية السودانية بخصوصية واضحة، فتضافرت مع أخشاب أخرى مثل المهوقني والتيك لاستخدامها في صناعة الأثاث المنزلي الرفيع والـ«اناتيك» الفاتح.
ومن أشهر مراكز النقش الخشبي الوافرة بالأبنوس شارع الغابة بأم درمان والخرطوم، حيث أبدع الحرفيون –غالبيتهم من أبناء جنوب السودان– في نحت تماثيل تحاكي الحياة الأفريقية التقليدية . فقد نحتوا مجسمات للأبطال القبليين ومعالم الموروث (كالسفينة الشراعية والزعامات التقليدية)
كما يمثل المبدعون في منحوتاتهم حيوانات نيلية كالتمساح والفيل وغيرها التي تغنى بها الشعراء الشعبيون. ويُذكر أن صناعة هذه المنحوتات تعتمد على الخشب الأسود الوارد غالباً من غابات جنوب السودان وجبال النوبة، ما جعلها «رصيداً للذاكرة السودانية».
الأبنوس في الحضارة النوبية والكوشية:
لأشجار الأبنوس جذور قديمة جداً في حضارة وادي النيل. فقد أفادت الدراسات الأثرية والتاريخية بأن الممالك النوبية والكوشية الأولى (مثل مملكة كرمة) كانت من منتجي ومصدري خشب الأبنوس مع الذهب والفضة والعاج إلى مصر وبونت في العصور القديمة.
ويشير الباحثون إلى أن المصريين والنوبين استوردوا الأبنوس لتزيين مبانيهم ومقابرهم، إذ وُجد أن الكثير من القطع الخشبية في مقابر الفراعنة هي من خشب الأبنوس. وفي السياق نفسه، حفّزت التراثات الشعبية السودانية تجسيد ملوك كوش في منحوتات خشبية مصنوعة من الأبنوس الصافي؛ فقد سُمّيت بعض التماثيل الصغيرة باسم ملوك النوبة وعُملت على هيئة مجسمات عصيّ الحرب والجلوس على العروش، تعبيراً عن تاريخ وحضارة تلك الممالك.
الأبنوس في العصر الإسلامي والتقليد الديني:
مع انتشار الإسلام في السودان توسّع استخدام الأبنوس في الصنائع الدينية والحرف المرتبطة بالعبادة. فهو من أفخر الأخشاب التي تُصنع منها المسابح او السبحة المفردة، فتكثر خشبية الأبنوس السوداء الملساء التي يُعشقها الصوفيون والمحسنون. يصف أحد حرفيي الأمدرماني ذكره بأن “من أجمل السبح الأبنوس، وهو خشب غالب لونه أسود.. جميل اللون ناعم الملمس إذا أتقنت خراطته”. كما يُستخدم الأبنوس في صنع حوامل المصحف الخشبية والمناقل وغيرها من مقتنيات المساجد والمصليات التقليدية، لما يتمتع به من صلابة وجمال ولون غامق يدفع عن العين والماء ويحفظ الكتابات. ويظل الأبنوس رمزاً للتقوى والشأن الروحي في الوعي الشعبي؛ فالسبحة الأبنوسية تُعد هدية ثمينة في المناسبات الدينية والإسلامية تعبيراً عن احترام التراث الروحي.
الرمزية والأدب الشعبي حول الأبنوس:
يتمتع الأبنوس بمكانة رمزية في الثقافة السودانية تتجاوز كونه مجرد خشب ثمين. فقد جسّده الأدب السوداني بطرق متنوعة؛ من ذلك أن الشاعر السوداني صلاح أحمد إبراهيم اختار اسم «غابة الأبنوس» عنواناً لأول ديوانه الشعري (صدر عام 1959) ، دلالة على ظلمة كثافة الأبنوس وقوة جذوره كرمز للوطن الأسود العظيم.
كما استمدت (ولادة) بعض دور النشر اسمها من شجرة الأبنوس، مسجلة بذلك مكانتها الثقافية (مثل دار أبنوس السودانية). وعلى المستوى الشعبي، تظهر عناصر الأبنوس فيما ترمز إليه المنحوتات والحلي من قيم القوة والصلابة والانتماء للأرض السودانية.
ومن مثال ذلك، استغل النحاتون صور تماثيل التماسيح والفيلة (وهي مصنوعة من الأبنوس) للتعبير عن القوة والبطولة، وهي حيوانات يغنّي بها الشعراء في الأهازيج البدوية . بهذا يتضح أن شجرة الأبنوس، بخشبها الأسود الثقيل، هي أشبه برمز متواصل عبر الأزمنة في السودان، يحتضن التاريخ الحضاري من النوبة إلى العصر الحديث في قلب الحرف والأدب والدين.
الاستخدامات الطبية التقليدية:
في الطب التقليدي، تُستخدم أجزاء مختلفة من شجرة الأبنوس لعلاج عدة أمراض:
الجذور: لعلاج آلام البطن والإسهال.
الدخان الناتج عن حرق الجذور: يُستنشَق لعلاج الصداع والتهابات الجهاز التنفسي.
اللحاء: يُستخدم كمضاد للإسهال.
الأوراق: لعلاج التهابات الحلق ومشاكل القلب.
الأبنوس في خطر: تحديات البقاء لشجرة سودانية نفيسة
رغم القيمة البيئية والثقافية الهائلة لشجرة الأبنوس، إلا أنها تواجه اليوم تهديدات متصاعدة تنذر بخسارتها من المشهد البيئي السوداني إذا لم تُتخذ إجراءات عاجلة للحفاظ عليها. وتشمل أبرز هذه التهديدات:
الجزع قبل التشكيل
الاستغلال المفرط والقطع الجائر:
يُعد خشب الأبنوس من أغلى أنواع الأخشاب ، ويُستخدم في الصناعات الدقيقة والفاخرة. هذا الطلب المرتفع دفع العديد من تجار الأخشاب، في ظل غياب الرقابة الصارمة، إلى قطع الأشجار بصورة عشوائية، دون اعتبار لدورة نموها البطيئة أو قدرتها الطبيعية على التجدد.
الحرائق الطبيعية والأنشطة البشرية غير المنظمة:
تتضرر بيئات نمو الأبنوس بصفة مستمرة بسبب الحرائق، سواء تلك الناجمة عن التغيرات المناخية والجفاف، أو الناتجة عن أنشطة بشرية مثل التوسع الزراعي أو الصراعات المسلحة التي أدت إلى اشتعال النيران في السافانا والغابات.
انخفاض معدلات الإنبات الطبيعي والتجدد:
تتميز أشجار الأبنوس بدورة حياة طويلة ونمو بطيء، كما أن بذورها تحتاج إلى ظروف بيئية دقيقة للإنبات. ومع تدهور الموائل الطبيعية، بات تجددها الطبيعي ضعيفًا، مما يعقّد جهود الاستزراع المستدام.
ضعف الحماية القانونية والتشريعية:
رغم إدراجها في قائمة الأنواع المهددة “Near Threatened” ضمن التصنيف الأحمر للـIUCN، لا تزال القوانين السودانية غير مفعّلة بالقدر الكافي لمنع قطع الأبنوس أو تنظيم تجارته، في ظل ضعف إنفاذ القانون وغياب البدائل الاقتصادية للمجتمعات المحلية التي تعتمد على بيع الحطب والفحم.
غياب برامج إعادة الإحياء والتشجير الموجه:
حتى الآن، لا توجد برامج وطنية ممنهجة تهدف إلى إعادة زراعة الأبنوس في موائلها الطبيعية. معظم الجهود لا تزال مشتتة أو قائمة على مبادرات فردية، مما يضعف فرص الإحياء طويل الأمد
المصادر:
دراسات وأبحاث تاريخية ونشر ثقافي سوداني وعالمي
حمزة محمد الأمين: 1990. أشجار وشجيرات السودان-الطبعة الاولي-مشروع تطوير حطب الوقود للطاقة.
اندروز 1948. نباتات السودان المجلد 1
كيس فوجت 1995-مرشد حقلي لأشجار وشجيرات المناطق الجافة في السودان. ترجمة كمال حسن بادي.
طلعت عبد الماجد وكمال بادي 2013. مرشد فلاحة الأشجار بمنطقة السافانا للأشجار المحلية.
محمد الأمين مختار. 1997-يعض استخدامات منتجات الغابات غير الخشبية, تقرير غير مطبوع.
