في العربية يجمعون (غابة) على (غاب) أو (غابات)، أما بعض السودانيين فيجمعونها (غِيَب)، ولكأنهم يستبطنون الغياب أو التغييب حين الربط بين المقولة المستحدثة وما يحدث للغابات على أرض الواقع في السودان.
لن تكون في حاجة لمعرفة أن أفضل الغابات، وأكبرها مساحة، وأكثرها جودة، تلك التي تتواجد في اقليم دارفور، والمناطق الجنوبية لاقاليم كردفان والنيل الأبيض والنيل الأزرق، وعلى ضفاف أنهار الدندر والرهد ونهر عطبرة. فستدلك على الأمر الشاحنات الضخمة المحملة بأطنان الأخشاب، والتي تعود ملكية معظمها للقوات النظامية، أو يتمتع أصحابها بحماية النظام الحاكم وأجهزته الأمنية. ذلك رغم أن قانون الغابات والأحراش في السودان قد صدر في أوائل العام 1991، وأُنشئت مصلحة الغابات في يناير/كانون الثاني 1992 كمصلحة قائمة بذاتها تحولت بعد مئة عام إلى الهيئة القومية للغابات. والآن كما يورد الخبير محمد الأمين مختار: “تعرّت مساحات شاسعة من الغابات المنتجة، وتحولت إلى صحراء تنتهبها الرياح، وجبال قاحلة، ووديان ينهشها الانجراف حتى لتستحيل زراعتها. وانخفض على الأثر مستوى المعيشة، وعم الجوع والشقاء حياة الملايين من البشر”.
كانت أشجار الدوم والدليب والسنط والهشاب والتبلدي والطلح والقُمبيل والحراز والسيّال والعرديب تمثل ثروات لأهل الريف يحرسونها وفق أعراف ومعارف تقليدية متوارثة، يمارسون الزراعة خلالها عبر عملية تبادلية دقيقة، حيث يقومون بإزالة الأشجار الهرمة والتي توقف نموها وعطاؤها، ويزرعون مكانها محاصيلهم لسنوات قد تصل إلى 10 أو 15 عاماً تكون خلالها قد فقدت خصوبتها، ثم يتركونها لينمو عليها الهشاب، فتستعيد الخصوبة مجدداً، ويكون المزارع حينها قد انتقل لمكان آخر. وهكذا يضمنون الحفاظ على خصوبة الأرض واستدامة الغابة، ودرء التصحر، مع التمتع الكامل بعطاء الغابة، واستغلال مواردها كالصمغ والثمار الزهور والبذور والاوراق واللحاء، والتي تستخدم في عمليات التداوي وانتاج العطور والاصباغ والمواد الدابغة. بيد أن الأمر اختلف في السنوات الاخيرة، فمن يزيل الغابة لا يزرع مكانها أشجاراً أخرى، ومن يشرف على توزيع الأرض لم يعد هو إنسان المنطقة العارف بفضلها، بل هو الغريب الذي يحوز السلطة، فتكاثرت العوائق المساعدة على التدهور البيئي – كما يذكر خبير الغابات كمال بادي فقد “تبقى للسودان الشمالي بعد انفصال الجنوب أقل من 11% من مساحة غاباته”، وهذه نجدها محصورة في الأصقاع النائية، والأكثر تأثراً بالحروب والنزاعات، وموجات النزوح واللجوء، وابتعاد الظل الإداري. ومنها ما تواجه بالتوسع الزراعي المطري الأفقي الغير مرشد، والإبادة الواسعة لأغراض الاتجار بالأخشاب. ويرى الخبير محمد الأمين مختار أن “الحل يكمن في الوقف الفوري لتدخل السلطات الأمنية في الغابات، ووضع سياسة قومية استراتيجية، وقوانين رادعة لحماية ما تبقى من غابات، والاتجاه لوضع السياسات القومية لاستثمار الأراضي بناءً على القواعد الايكولوجية والبيئية على الوجه الصحيح”.
لقد جُبل الانسان على التطلُّع إلى كل ما هو جديد، الأمر الذي يحدث الكثير من التشوهات في علاقاته ببيئته. فما أن يشب الفرد ويجد أن بمقدوره الانفصال عن أمه ويبدأ السعي في بناء علاقات خارج محيطه الأول، حتى يداهمه إدراك أن من حقها أن يخصص لها (يوم) في كل عام، وهي التي ظلت تمنحه كل ساعة من عمرها، وكل نبضة من قلبها.
كذا هو حالنا مع الغابات التي هي بمثابة الرئة لجسم الإنسان، لا يستطيع التنفس أو الحياة بدونها. فمن الغابات مأكلنا وملبسنا ومأوانا، وما نستشفي به. ومع كل هذا نمد لها يد الخراب، ونهملها مثلما يهمل البعض أمهاتهم. وحتى نداري ما يعترينا من يجل نخصص لها يوماً في كل عام.
يقال بأن أصل حكاية الاحتفال بعيد الأم إغريقي، حيث تقول الرواية بإن الإغرقيين أقاموه احتفاء بـ(ريا) أم الآلهة. وفي القرن السادس عشر كانت إنجلترا تحتفل بيوم سمي بـ(بأحد الأمهات)، يمنح فيه خدم المنازل لدى الأغنياء يوم عطلة يعودون فيها إلى منازلهم، للاحتفال مع أمهاتهم بالمناسبة. ثم تحوّل الاحتفال بـ(أحد الأمهات) إلى مناسبة للاحتفال بأم الكنيسة مريم. ومع مرور الوقت أصبح يوماً لجميع الناس يكرمون فيه أمهاتهم.
في العام 1956 إقترح الأخوان مصطفى وعلي أمين تخصيص أول أيام فصل الربيع (21 مارس/آذار) عيداً للأم، ليكون رمزاً للتفتح والصفاء والمشاعر الجميلة، ما يشير إلى أن في الأمر إرتباط ما بالطبيعة. بيد أن هناك بلدان أخرى تحتفل بالأم في تاريخ مغاير.
ومثلما ننده أمهاتنا سراً وعلانية ساعة الضيق، وحين تستبد بنا حمى الفراق، ها نحن اليوم نقف لنعلن الاعتراف بتفريطنا، بعد أن حاصرتنا الغازات السامة، وتصاعدت درجات حرارة الشمس، وشح المطر، ورحلت عن دنيانا أعداد كبيرة من شركاء الكوكب من طيور وحيوانات وحشرات بسبب فقداننا الغابات. نقف لنحتفل باليوم العالمي للغابات، لعلنا نتمكن من زيادة رقعة الوعي حول الدور المهم الذي تلعبه الغابات في تحقيق التوازن البيئي، وما تمثله من غنى بيولوجي، وما تقوم به تجاه الكوكب وساكنيه.
تم تأسيس اليوم العالمي للغابات في يوم 21 مارس/آذار، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2012، و احتُفل به لأول مرة في العام 2013، حفزاً لاطلاق المبادرات، ومناقشة الفرص والتحديات المتعلقة بإدراج الغابات في آليات واستراتيجيات التخفيف من آثار تغير المناخ والتكيف معه. فالغابات بجانب أنها الموطن الطبيعي للملايين من الكائنات الحية، فهي تشكل أكبر وأغنى تنوع بيولوجي على كوكب الأرض. كما أنها مصدر الرزق والمأوى والغذاء والطاقة، لأكثر من مليار شخص في العالم. ويساهم وجودها في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، والتي من أحد أهم أهدافها القضاء على الفقر والتخفيف منه.
فهل هي مصادفة أن يتزامن الإحتفال بأمهاتنا اللاتي ولدننا ومنحننا الحياة مع الاحتفال بالغابات إعترافاً بعطائهن اللا محدود؟
ملحوظة: أعلاه (كولاج) جمع بين مقالين سبق أن نشر أحدهما، وبقي الآخر في الانتظار
