حكاية من بيئتي … سمبرية مردس

لم يكن تلميذ الابتدائية وقتها، خبير الصحة المرموق حالياً عبد الماجد مردس (1)، يدرك أنه سيتلقى علقة ساخنة لا تُنسى من أستاذ العلوم، لأنه قام برسم سمبرية في كراسة المدونة الطبيعية، الأمر الذي يعني أنه شاهد الطائر في ذلك الصباح الذي لا يصادف موسم وجود الطائر المهاجر

حكاية من بيئتي …  سمبرية مرد

🖋محمد أحمد الفيلابي

لم يكن تلميذ الابتدائية وقتها، خبير الصحة المرموق حالياً عبد الماجد مردس (1)، يدرك أنه سيتلقى علقة ساخنة لا تُنسى من أستاذ العلوم، لأنه قام برسم سمبرية في كراسة المدونة الطبيعية، الأمر الذي يعني أنه شاهد الطائر في ذلك الصباح الذي لا يصادف موسم وجود الطائر المهاجر، وبكل براءة جمع كراسته كالعادة مع الكراسات الأخرى للمراجعة والتصحيح، فما كان من المعلم إلا أن جعل من التعليق على رسمه درساً لزملائه، وللزمن. فـ(المدونة الطبيعية) مصطلح يشير إلى ممارسة تدوين الأفكار والذكريات والمشاهدات اليومية، وهي منهج مبسط لربط التلاميذ ببيئتهم، حيث يقومون على مدى أيام الأسبوع برصد وتوثيق و(تدوين) ملاحظاتهم، ويرسمون ما يشاهدونه من مظاهر في البيئة حولهم، ويتلقون عند المراجعة رسائل ودروساً بيئية تساهم في بناء وجدانهم البيئي مدى العمر.

ظهر المصطلح في حقل التعليم في السودان في العام 1947، ولعله كان واحدة من بنات أفكار رواد التعليم الأوائل، جنباً إلى جنب كتاب سبل كسب العيش في السودان (2)، وغيرها من أسس التعليم البيئي التي انبنى عليها منهج تعليم العلوم والجغرافيا المدروس بعناية، والمحدّد الأهداف، ومؤشرات التقييم.

كنا نحن ذلك الجيل من تلاميذ الأولية، ثم الابتدائية من بعد، نستخدم المدونة الطبيعية كنوع من اليوميات كتابة ورسماً، ما يحقق من الأغراض الكثير كالتعليم على الرصد والتوثيق اليومي، وربط الفنون بالجغرافيا والعلوم، حيث كنا نرسم أنواع الخضروات والمحاصيل التي تشير إلى مواسم الانتاج، والطيور والحيوانات في بيئتنا، بل علمونا أن نحمل حفنة تراب بأكفنا الصغيرة ثم نذروها في الهواء لنسجل اتجاه الرياح، ربطاً لمفاهيم الجغرافيا والعلوم والبيئة. وحين نعجز عن تسجيل الملاحظات، كنا نجد توجيهات المعلم، وتحفيزه تنمية لمهارات الكتابة والتعبير. تلك المهارات التي نتلقاها بتركيز أكبر في ذلك الجزء من حصص اللغة العربية المسمى (التعبير أو الإنشاء)، لننشأ بذلك جيلاً لا يهاب حمل القلم، ولا انسيال الأفكار من المخيلات.

وقف علينا جيل من المعلمين أبقوا على ما سطره لهم كبار التربويين، وما انغرس فيهم من دروس وتجارب، ومن موجهات، كتلك المقولة التي يتردد صداها في فضاءات معاهد إعداد المعلمين كثيراً (لا تملأ ذاكرة الطفل بالمعلومات، بل أشعل مخيلته بالأفكار). ليأتينا زمنٌ يقوم فيه من تلقوا ذات المناهج، بنسف كل ما له علاقة ببناء الذات، و(التعبير) عنها، وبكل (عنجهية) يدعون إعادة صياغة الانسان السوداني، لتتعاقب على الأجيال مناهج عرجاء لا تصل بهم إلى (ميس) (3) المعرفة، ولا الإنشاء، إلا من رحم ربي ممن استطاعوا التجاوز.

إن كانت المدونة الطبيعية أداة إبداع، فإن المعلم وقتها كان يعي دورها ودوره، إذ كان يُعد للقيام بذلك الدور كما يجب، حتى أنه لا يسمح لرسم السمبرية في غير موعد ظهورها أن يقف عند الأمر، ذلك لأن الوعي بالذات يبدأ في تلك المرحلة من العمر، مثلما يبدأ الوعي بالبيئة من حول الطفل.

أما كتاب سبل كسب العيش (صنو المدونة) فقد كان يُدرّس في السنة الثالثة، أي حين يكون التلميذ قد وصل العاشرة من عمره. وكان يهدف إلى تسكين الجغرافيا وبعض مبادئ العلوم الاجتماعية بأسلوب محبَّب قوامه الحكاية والرحلة الخيالية والغناء. أما ما يتضمنه المنهج فهو المعرفة المتكاملة حول الجغرافيا والبيئة والطقس، والمنتجات ومكونات المناطق الأخرى، بجانب الصدق، فالرحلات الخيالية قام بها حقيقة بعض الرواد عام 1937، (4)، وتمت محاكاتها من خلال النص الشعري الذي أبدعه العلامة عبد الرحمن على طه (أحد المشاركين في الرحلات)، وكذا الأصدقاء الوارد ذكرهم هم أشخاص حقيقيون، مثلما هي المناطق الجغرافية (5)، ما يعني أن المنهج في عمومه نواة لـ(GPS) (6) طبيعي يُسكّن في وجدان الأجيال مدى العمر. فقد كبرنا وتهيأ لنا أن نصل بعض تلك المناطق، أو جوارها لنستدعي ما رسخ في الذاكرات. وتبعت تلك الرحلات المحلية رحلات خيالية عالمية، سهُل علينا تلقي ما تتضمنه من معلومات بيئية.

رابط وثيق آخر هو ما مارسناه من انكباب بكل محبة وشغف طفولي على الأطلس.

أين هو الأطلس الآن؟

الألوان، والأرقام، وأسماء المدن والأقاليم المناخية، ومقاييس الرسم، والدقة في كل شيء.

قبل أعوام حاولت أن أربط أبنائي بالأطلس، فجئت إليهم بنسختين (عربية وانجليزية)، على أمل أن أتمكن من حقن ذلك الشغف فيهم، بيد أنه لا مجال لأي شيء مع الهواتف الذكية، التي توفر لهم المادة بلا اجتهاد، إنما كبسة زر، هاتف ذكي (يستغبي) حامله. وثورة اتصالات صادفت نية من أرادوا زراعة الغباء في المدارس، وساندتهم بوضع غطاء لا مرئي على ما حدث لمناهج التعليم من تجريف وتدمير متعمّد، حتى ليتخرج الولد أو البنت من هذا الجيل في الجامعة دون معرفة حقيقة بجغرافيا بلده، دع عنك الأقاليم المناخية، وسمات البيئة وما تنتجه كل منطقة، وما تحتويه من موارد. وقد ردد أحدهم أن”شكرا للحرب التي عرّفت أبناءنا أسماء مناطق داخل الوطن، والكثير مما أخفي عنهم في المناهج”.

إن كانت السياسة قد باعدت بين الكبار، فإن ظلال السياسة قد أقصت الصغار عن المعارف الحقيقية، وعن أهداف التعليم الذي ييني الوجدان ويهيئ الأجيال لبناء البلدان.

وبالعودة إلى سمبرية مردس التي نزلت على مخيلته قبل أن تنزل تلك السمبرية المداومة على النزول كل عام على سيالة جدي العتيقة، يفرحنا صفيرها المؤذن بقدوم الخريف، مثلما أفرح الراحل مصطفى، و(السمبر البفرح صفيرو). وطيوره (الما بتعرف ليها خرطة.. ولا في ايدا جواز سفر). تأتينا عابرة يحمّلها المغتربون الأشواق (تلقى فيها النيل بيلمع في الظلام… زي سيف مجوهر بالنجوم من غير نظام.. وبالله يا طير قبل ما تشرب تمر على بيت صغير..) (7) فالمعروف أن بعض الطيور يأتي مع طلائع الخريف، ومن بينها السمبر (اللقلق الأسود)، الذي يشتهر بوداعته، وببناء عشه بحرفية عالية ووضع البيض، ثم إقامة حراسة مشددة عليه ريثما يفقس، ليعود إلى موطنه الأصلي في أوروبا أو غرب آسيا.

 وليت (الوطن) يعود إلى أهله، وذلك المُغَيَّب يعود إلى أسرته وأبحاثه، ليواصل مشروعه الطموح الذي اختار له اسم (مشروع طائر السمبر)، نسبة للطائر الوفيٌ، الذكيٌ والحريص، والذي لا يطير في الأعالي إلا فوق مجاري الأنهار والمياه، يتفادى الصحاري القاحلة، وينزل إلى الماء والغذاء متى شاء، إلى أن يصل موائل لا يبدلها. ذلك لأن طائر السمبر يُراكم خبرات ومهارات أسلافه عبر السنين، ويستعين بها في هجراته الموسمية عبر رحلاته القارية الطويلة. ويذكر علماء الطيور، أنّ للطائر جهاز توجيه، يشبه إلى حدٍ كبير، جهاز الـ(ـGPS)، يستخدمه الطائر في رحلاته الطويلة، ويعود به كل عام إلى نفس العش الذي تركه العام الماضي!

العالم السوداني البارز عمر هارون، أدخل برنامج اليوسيماس إلى البلاد، وبدأ مشروعاً طموحاً للكشف عن النابغين. ذلك المشروع المتخم بزخم الرمزيات، المستند على تراكم الحضارات، ليرتقي بالطفل إلى معالي العلم والتكنلوجيا، ويبصر بعين السمبر الحادّة، ويلتقط الأطفال الأذكياء والمواهب المتفرّدة، تماماً كما يهبط السمبر من الأعالي ليصطاد دودة صغيرة في خبأ، غفل عنها الجميع وتُركت في أطراف الحقل، مثلما يُترك جُلّ الأطفال من النابهين والعباقرة، دون اكتشاف مواهبهم أو رعايتهم. أخاف المشروع الطموح البعض ممن لا يودون لأي نابغة أن يعلو شأنه، لكأنه سيزاحمهم على الكراسي، أو ينافسهم في السيطرة على الموارد، ليصبح الغياب (الاختفاء) المباغت (8) إحدى دمل حاضرنا الذي أفضى أخيراً إلى كارثة الدمار الشامل. ولو أن سمبرية عبد الماجد أو أحد أبناءها أو أحفادها عاد الآن، فلن يجد حتى الشجرة التي يعشعش عليها، وسيكون على ذلك الطفل أن يرسم الخراب، ويحكي عن الهواء الملوث بالدخان والرائحة الموت.

ولتلك السمبرية العتبى حتى نجد لها مكاناً في المدونة، أو على شجرة نسيتها فؤوس المحتطبة الجدد.

ونلتقي في حكاية بيئية أخرى….

الهوامش:

(1) عبد الماجد مردس – خبير صحة عامة وصحة بيئة – زميل الجمعية الملكية لتعزيز الصحة.

(2) كتاب سبل كسب العيش في السودان – تأليف عبد الرحمن علي طه – الطبعة الأولي 1941 – دار المعارف القاهرة – الطبعة الرابعة المنقحة 1961.

(3) الميس هو منتهى مضمار اللعب، ونقطة النهاية في كل رحلة.

(4) تكون فريق تلك الرحلات من الأساتذة مكي عباس، النور إبراهيم، الشيخ مصطفى، عبد العزيز عمر الأمين، عبد الحليم جميل، أحمد إبراهيم فزع، عثمان محجوب، عبد الرحمن علي طه، سر الختم الخليفة (رئيس وزراء ثورة أكتوبر 1964م). ومستر ومسز سمث.

(5) الأصدقاء والأماكن التي تمت زيارتها: الصديق عبد الرحيم محمد الأمين. محمد القرشي الحسن/ ريرة

سليمان محمد عثمان/ الجفيل، محمد ود الفضل / كيلك/ بابنوسة، ومنقو زمبيري/ يامبيو، وحاج طاهر علي / محمد قول، وأحمد محمد صالح / ود سلفاب، وإدريس إبراهيم/ أم درمان، وعبد الحميد إبراهيم/ عطبرة / بورتسودان.

(6) نظام تحديد المواقع Global Positioning System

(7) الطير المهاجر أبدعها صلاح أحمد إبراهيم شعراً والموسيقار محمد وردي لحناً وأداء.

(8) اختفى د. عمر هارون في ظروف غامضة منذ منتصف سبتمبر 2012.

(9) في ظل تمد الحرب لم يجد المواطن خياراً سوى قطع أشجار البيوت والشوارع والمزارع، ذلك غير الذين أصبحوا يعتاشون من قطع ما تبقى من غابات.

5555
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

English