*عندما تتحوّل مواقف النقل إلى واحات خضراء: إلهام من المدن الذكية*
بكل تقدير، أستهل هذا المقال بالإشادة المستحقة بجهود المهندسين المدنيين الذين يبذلون قصارى جهدهم في تطوير البنية التحتية لمدن السودان خاصة الخرطوم، في سبيل النهوض الحضري والارتقاء بالخدمات. كما لا يفوتني أن أثمّن عالياً الأدوار الحيوية التي تضطلع بها المؤسسات القومية ومنظمات المجتمع المدني في تعزيز الوعي البيئي، ولا سيما ما يتعلق بالتشجير الحضري وحماية الأشجار، تلك الرئة الخضراء للمدن.
*عندما تتحوّل مواقف النقل إلى واحات خضراء: إلهام من المدن الذكية*
بقلم أ.د. طلعت دفع الله عبد الماجد
بكل تقدير، أستهل هذا المقال بالإشادة المستحقة بجهود المهندسين المدنيين الذين يبذلون قصارى جهدهم في تطوير البنية التحتية لمدن السودان خاصة الخرطوم، في سبيل النهوض الحضري والارتقاء بالخدمات. كما لا يفوتني أن أثمّن عالياً الأدوار الحيوية التي تضطلع بها المؤسسات القومية ومنظمات المجتمع المدني في تعزيز الوعي البيئي، ولا سيما ما يتعلق بالتشجير الحضري وحماية الأشجار، تلك الرئة الخضراء للمدن.
من بين هذه الجهات الرائدة نذكر منها علي سبيل المثال: الهيئة القومية للغابات، المجلس الأعلى للبيئة والموارد الطبيعية ومجلس البيئة والترقية الحضرية بالعاصمة الخرطوم ومنظمات المجتمع المدني السوداني علي راسها الجمعية السودانية لحماية البيئة، جمعية فلاحة البساتين السودانية، حركة السودان الأخضر, التحالف الأخضر السوداني, منظمة اعلاميون من اجل البيئة والتنمية المستدامة منظمة Go Green Sudan، وايكو نايل وجبراكة نيوز. ، منظمة ضريبة للدراسات البيئية, الساقية برس, الراكوبة, كوشي نيوز, سكاي نيوز, اندبندنت عربية, ايكو سودان, مبادرة شباب “أبيض ضميرك” جنوب كوستي, منظمة الهشاب للتنمية الريفية, منظمة سوا سودان ، مبادرة بيتنا أخضر، الزريع السوداني الأصل، جمعية بيئتي، وغيرها من الجمعيات والمنظمات التي تشكل نبضاً واعياً في الحراك البيئي السوداني، وتسهم بإصرار في ترسيخ ثقافة مستدامة تنظر إلى الأشجار لا كزينة، بل كضرورة حياتية لا غنى عنها.
من أبرز الابتكارات البيئية في المدن المتقدمة هو تحويل مواقف الحافلات إلى بيئات خضراء مستدامة، ويُعرف ذلك بـ ,, “Green Bus Stops”: لا تعمل الأشجار هنا على تحسين المناخ فقط، بل تعزز أيضًا جودة تجربة الفرد أثناء انتظار وسائل النقل، بتوفير ظل طبيعي وبيئة أكثر أمانًا وجاذبية. حيث تمكّنت الغطاءات النباتية من خفض معدلات الملوثات مثل NO₂ وPM₁₀ .
أما من الناحية النفسية، فقد أظهرت الابحاث أن التعرض لهذه المساحات الخضراء يحسن التركيز، الذاكرة، والإبداع، ويخفض مستويات التوتر والقلق بشكل موثّق. ففي الدول المتقدمة كاليابان، تتحوّل حتى مواقف السيارات إلى حدائق غنّاء، بأسطح مزروعة وجدران خضراء تساهم في تنقية الهواء وتلطيف المناخ الحضري. هذه المساحات ليست للزينة فقط، بل تُخفّف التوتر وتمنح الإنسان راحة نفسية مثبتة علميًا.
يعكس هذا التوجه وعيًا عميقًا بأهمية دمج الطبيعة في قلب المدن. في المقابل، تعاني مدننا من اتساع المساحات الرمادية على حساب الغطاء النباتي، ما يفاقم التلوث ويُضعف جودة الحياة. الفرق بيننا ليس في الموارد، بل في الرؤية والإدارة. آن الأوان لنُعيد التفكير في تخطيطنا الحضري، ونجعل من كل متر فرصة خضراء تُنعش مدينتنا وتُحيي أرواحنا.
بيوت السكة الحديد بالخرطوم، تلك المنازل العتيقة التي شكّلت علامة بارزة في قلب المدينة، تتربع على موقع استراتيجي من أغلى بقاع العاصمة، ما جعلها لاحقًا مطمعًا للاستثمار ومشروعات البيع. تحفّها معالم بارزة من كل جانب: يحدها من الشمال شارع القصر ومستشفى الخرطوم، ومن الشرق شارع كاترينا وجامع شروني وكوبري المسلمية، ومن الغرب شارع الحرية والكوبري، أما من الجنوب فيمتد حي الخرطوم (3). هذه البيوت التي ارتبطت بذاكرة أجيال من سكان المدينة وأبناء السكة الحديد، تتحوّل اليوم إلى موقف للمواصلات العامة يُعرف باسم “موقف شروني”، في مشهد يثير في النفوس الحنين، ويستدعي التأمل في جدلية التحديث والحفاظ على ذاكرة المكان.
على مشارف منطقة شروني، كانت تقف أشجار النيم المعمرة شامخةً، تظلل المكان وتمنحه روحًا من السكينة والامتداد البيئي العريق. وعندما بدأ العمل في تشييد موقف شروني الشهير، بدأت معاول التغيير تقترب من تلك الأشجار، فاقتُلع بعضها بجرافات ضخمة لتسوية الأرض وتمهيدها لمسارات الأسفلت والممرات الحديثة. مررت يومها برفقة زميلي من الغابات، الدكتور الشيخ محمد توم الطيب، نجل الشيخ الجليل الصابونابي، وشهدنا المشهد المؤلم لتراجع الغطاء الأخضر لصالح التوسع الحضري.
تحدثت إلى المهندس المشرف، وناشدته أن يولي عناية خاصة لما تبقّى من الأشجار، خصوصًا تلك الواقعة خارج نطاق الطرق، واقترحت عليه إنشاء أحواض لحمايتها من الجفاف بعد سفلتة الأرض. تلقّى طلبي بتفهّم ووعد حينها ببذل الجهد للحفاظ على ما تبقّى من هذا الإرث الأخضر. كانت لحظة تختلط فيها مشاعر الأسى بالأمل، في أن تجد البيئة صوتًا بين ضجيج المشاريع العمرانية. رغم التحوّل الهيكلي، لا تزال بعض أشجار النيم تحيط ببعض ممراته، ما يوفر انطباعًا بصلة الموقع بعمق تراثي وبيئي.
للأسف بعد اكتمال تشييد الموقف, شهدت الأشجار جفافًا وذبولًا ثم موتًا مبكرًا. توضح الدراسات أن الرصف غير المنفذ حول جذوع الأشجار يقطع قناة الحياة الطبيعية للجذر، ويؤدي إلى اختناقها بطرق متعددة: منع تبادل الغازات (التهوية): تحتاج جذور النيم إلى الأكسجين للتنفس الخلوي. لكن غطاء الأسفلت يحجب الهواء عن التربة، فيقل ضخ الأكسجين في المسام الترابية. وجدت دراسة أن التربة تحت الأرصفة ملوثة بالمياه ويزداد نقص الأكسجين فيها، بحيث تكون “التهوية تحت الرصيف منخفضة جدًا مقارنة بالتربة المكشوفة.
ان تغطية نظام جذور الشجرة تمنعها من تبادل الغازات مع الجو، وهو أمر حرج لصحة جذور الشجرة. ونتيجة لذلك تختنق الجذور وتنخفض قدرتها على النمو والتنفس. منع تسرب الماء والمغذيات: يقل نفاذ مياه الأمطار إلى التربة المغطاة بالأسفلت، فيجري الماء بعيدًا ولا يصل إلى جذور الأشجار. أن الأسطح غير المنفذة تتسبب في جريان مياه الأمطار ومنعها من التسرب إلى التربة. ولهذا تُصبح التربة المحيطة بالجذور جافة، وتحرمها من الماء والعناصر الغذائية اللازمة.
وتشير أبحاث ودراسات البيئة الحضرية إلى أن الأشجار تضطر للجوء إلى النمو نحو السطح بحثًا عن الهواء والرطوبة عندما تمنع الأسفلت تسرب المطر. وبالمحصلة تعاني الأشجار من جفاف مزمن ونقص في العناصر المغذية نتيجة لنقص الماء في التربة.
ضغط التربة وقطع الجذور: يتطلب مد طبقات الأسفلت حفرًا وضغطًا كثيفًا للتربة. هذا يعزز الكثافة الظاهرية للتربة (Compaction) ويقلل عدد وحجم المسام. فالتربة المدموغة لديها مسامية منخفضة تصل حتى إلى مستويات تمنع نفاذ الماء والهواء. ان ضغط التربة يقلل تدفق الماء والهواء إلى الجذور ويزيد المقاومة الميكانيكية أمام نموها.
والأشجار حساسّة جدًا لضغط التربة وقلة الأوكسجين، فيتضاءل بالتالي قدرتها على الحصول على الماء والمغذيات الكافية لتحمل الجفاف. يزيد على ذلك أن الحفر اللازم لوضع أساس الأسفلت يقطع العديد من الجذور الكبيرة المجاورة، فربما لن يتبقى سوى عدد أقل بكثير من الجذور عما كان موجودًا. في هذه الظروف “تموت أشجار مبكرًا لعدم توفر حيز جذري كافٍ بسبب ضغط التربة.
تأثيرات أخرى (الحرارة والسموم): قد يلحق الرصيف ضررًا مباشرًا بالجذع نفسه. فالأسفلت الساخن الذي يلامس قاعدة الشجرة يمكن أن يحرق طبقة الكامبيوم (الطبقة النامية) ويعيق مرور الماء والمواد الغذائية داخل الشجرة. كما أن تراكم النواتج النفطية أو الأملاح على سطح الأسفلت قد يرفع ملوحة التربة القريبة ويزيد الإجهاد البيئي على النبات، مما يساهم في اختناق الجذور وسوء وظائفها.
في المجمل، تؤدي هذه العوامل إلى اختلال الوظائف الفسيولوجية لأشجار النيم في موقف شروني. فالنيم، على الرغم من تحمله للجفاف نسبيًا، إلا أنه يبقى بحاجة إلى حد أدنى من ماء التربة وتبادل الغازات. وعندما يُحرم من ذلك، تضعف الشجرة فسيولوجيًا (تقل عملية التمثيل والتمثيل الضوئي، وتُصاب الأوراق بالإصفرار والذبول) إلى أن تموت.
للتخفيف من هذه الآثار والحفاظ على الأشجار في مشاريع مماثلة، توصي الأدبيات الهندسية والبستانية بما يلي:
استخدام رصف نفاذ (مسامي): يُفضل رصف ممرات وقوف السيارات حول الأشجار بأسطح نفاذة للمياه والهواء، مثل الأرصفة المسامية أو الحصى المدكوكة. فهذه الأسطح تسمح بتسرب مياه المطر إلى التربة وتحسين تبادل الغازات، مما يساعد على إدامة وجود الجذور الحية. وتؤكد الأبحاث في البيئة الحضرية أن الرصف المسامي يعد حلاً واعدًا لتحسين نمو الأشجار.
توفير حجم مناسب للتربة غير المضغوطة: يجب تصميم حيز جذري كافٍ تحت الرصيف لدعم الشجرة. يمكن الاستعاضة عن التربة التقليدية بخلايا تربة هيكلية (Soil Cells) تحافظ على مسامية عالية وتوفر حجماً كبيراً من التربة الملاصقة للجذور. كما يوصى بترك فتحة مسامية حول جذع الشجرة (نافذة جذع) وعدم رصفها جزئيًا للسماح بدخول الماء والهواء إلى قاعدة الجذع.
حماية الجذور أثناء الإنشاء: تجنب قطع الجذور الكبيرة لشجرة القائمة عند مد الأسفلت. لو اضطر الأمر إلى الحفر قرب الشجرة، فيجب تنفيذ أعمال الحماية (مثل حواجز للتربة المؤدية للخشون أو وضع طبقات من الخشب والرمل لحماية منطقة الجذور) لتقليل الضغط الميكانيكي وحفر التربة. وجود (خبير غابات) لتحديد منطقة حماية الجذور (Tree Protection Zone) حول كل شجرة وبناء السقالات اللازمة قبل التنفيذ.
الري والتغذية بعد الرصف: يجب تعويض نقصان الماء بالعناية بالري الاضطراري للشتلات أو الأشجار الحديثة، خاصةً في أول موسم رطب بعد الرصف. كما يمكن استخدام أنابيب ري عميقة أو أجهزة تعزيز التهوية (Aeration Tubes) لضخ الماء والهواء إلى عمق الجذور.
في ظل التسارع العمراني الذي تشهده مدينة الخرطوم، تبرز الحاجة الملحّة إلى استصحاب البعد البيئي والجمالي في كل مراحل التخطيط والتنفيذ. فالخرطوم، الواقعة في نطاق الحزام شبه الصحراوي، لا تحتمل ترف إهمال الأشجار، بل تحتاج إليها بوصفها عنصرًا أساسياً في تلطيف المناخ، والحد من موجات الحر، وتحسين جودة الهواء، وتعزيز الصحة النفسية والجمالية للسكان.
إن مشهد المدينة لا يكتمل دون ظلال النيم والمهوقني والبلطفرم وغيرها من أشجار الظل الوارف. لذا، فإن على الجهات المختصة دمج التشجير الحضري ضمن سياسات التخطيط العمراني، واعتبار الأشجار أصولاً بيئية يجب الحفاظ عليها وتوسيعها، لا عوائق تعترض التنمية. حماية البيئة الحضرية مسؤولية أخلاقية ووطنية، واستثمار في مستقبل المدينة وصحة سكانها، وعلى صناع القرار أن يجعلوا من ظل الشجرة معيارًا حضاريًا يوازي عرض الطريق وعلو المباني.
